الكاتب : محمد حسين قاسم
22/11/2011 مشاعل نور على الطريق
مشاعل نور على الطريق
وأبدأها بالذي اعتبره خليفة من بعثه الله رحمةً ونوراً ...
أبدأها بأستاذي ومربيّ ... الدكتور الشيخ محمد سعيد بن ملّا رمضان البوطي ... رحم الله والده وبارك لنا في عمره...
لقد تعرفت عليه أو عرّفني الله عليه وأكرمني بذلك ... فأحال أيامي نعيماً ... وعرفت الحياة الحقيقية ...
انتقلت إلى رياضٍ وارفة الظلال وعذبة المياه ... في دوحٍ رائع السحر والإبداع ... وسموًّ وانشراح
وجعل -بفضل الله- عيوني تسرحان في الجمال الحقيقي ... وتدور وتتأمل في عالم الجمال المتألق النّضِر.
جمالاً ... يأخذ الروح من عوالم لعوالم ... يطير بأجنحة من سنى ً إلى الله ... ويسمو بحسٍ فوق كلً محسوس إلى رَوحِ السكينة والأنس والارتياح ... وينور فكري بنور المعرفة الحقيقية التي تدحض كلَّ زيف وتحرق أوراق الشيطان ...
لقد كنت في مرحلةٍ أبحث في اللاوعي عمن يأخذ بيدي إلى الله قلباً وفكراً ... وكنت أنتظر رحمة الله بعد تجربةٍ مريره ...
وبعث الله من أرشدني إليه ... وتوالت المكرمات عليّ من الله الذي كان ولا يزال وسيظلّ الأكرم.
وأقول ... لقد تعلمت من شيخي أن البشر من يوم عهدهم ظلّوا عاجزين عن التعبير عن مكنون مشاعرهم وكانوا يصعِّدون هذا المخزون من المشاعر بالغِناء ... أو بألوان البلاغة ... ولكنهم لم يستطيعوا أن يصلوا للتعبير الحقيقي عن مكنون ذواتهم المشتعلة بالإحساس ...
أما البيان الإلهي يعبر التعبير الكامل عن الحق وعما يريده ـ
وأنا واحد من هؤلاء البشر, وإني الآن لا أستطيع أن عبر عن الذي أكرمني الله به ... ومازال ... من الإحساس بربوبية الله العظيم ... وبسرَّ عبوديتي له سبحانه ... وبالخير المبارك الذي تسلسل بعدها خصلةً في إثر خصلة ...
كنت لا أقرأ ولا أحب القراءة والمطالعة ... فأصبحت أعشق العلم والكتب والقراءة ... وأقتني المزيد والمزيد من الكتب في ألوان الثقافة الإسلامية المتنوعة ... حيث كان منهجه العلم وكل من أراد أن يجادل في مسألة جزئية يحاكمه للمنهج العلمي ابتداءً من المسلَّمات إلى أدق المسائل وأعقدها ...
وكنت لا أفهم بعض المسائل ... أو لا أستبين مقصد الشارع منها ... فقد كان الله يلهمه التحدث بها ... وكان يصل إلى نواة فكري وسويداء قلبي ...يقنعني تمام الإقناع ... ويلهب في فؤادي لهيب الشوق إلى الله بمشاعر تنتشر كأريج الطيب ... تنعشني وتهيج فطرتي الإيمانية الأصيلة...
لقد كنت وكنت ... وكنت ميّتاً فأحبانيَ الله ...
ولكم كان يطيب له الحديث عن العبودية لله سبحانه ... وإني لأجد يوماً بعد يوم أن هذا هو محور الحياة وعليه يدور كل شيء نعم ... وكنت أرفع رأسي بالإسلام إذ يحدثنا عنه ... وعن إكرام الله لنا أنِ اصطفانا مسلمين له ... لقد كانت قناعتي بالإسلام تزداد يوماً بعد يوم ديناً عظيماً قيّماً ... وهو الذي ارتضاه ربنا لنا ...ربنا الحكيم ... ولذلك قلت لك يا قارئي أني كنت ميتاً فأحياني الله ...
ألم تسمع قوله تعالى (اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) نعم لما يحيينا ... فاللهم أدمنا أحياءً ...
ولو أردت أن أفصَّل في الوجد الذي كان يغلي بين جوانحي ... والدمع الحارّ الذي يهمي من مقلتي ... والخفقان الذي يرتجف به فؤادي ... والخشوع الذي يهيمن على أعضائي عندما كان يتحدث عن الله ... ويشهق ... لقد كان يؤثــِّر بي في حاله ... و شعوره ... والتياعه ... ويصل إلى الشغاف ... قبل أن يتحدث بالعبارات ... فأنوار الحكماء تسبق أقوالهم ...
أما كتاباته ... فقد كنت أحسُّ أنه يكتب بشفافية عالية ... يسكب روحه الطاهرة على الورق بصدقٍ واضح وضوح الشمس في كبد السماء ... وكان ذاك يزكّي كتاباته ويطيبها للنفس بشكل لافت للانتباه ...
لقد كانت كتاباته تشعّ نوراً يجلو عن العقل غشاوته ... وينعشه بالمعرفة الحقيقية والبرهان الواضح الجلي ّ يفنّد الشبهة ويردُّها بأسلوب علميّ رصين ... إذ كان قلمه بالمرصاد لأرباب الغزو الفكري ... والملاحدة ... والمستشرقين ... والماديين ... والعابثين
ولا تكفي قناعة العقل .... بل كان من نور كتاباته ما يشبع الفؤاد حباّ وارتياحاّ وانشراحاّ لما يلاقيه من المشاعر ... ويطير طائره نحو الحبيب الأول ... ونحو منازل الوطن الذي أبعد عنه وبات الظمأ نصيبه وقدره ...
لقد كان يفتح لهذا القلب نوراً ووميضَ ذكرى لتلك الحمى ... ينشُلنا من ضيعة الأكوان إلى ملكوت المكوِّن ...
ولست هنا بصدد عرض المؤلفات ومضامينها فهي تحتاج لبحث مفصَّل مطوَّل ... وإنما أشرتُ إشارة ...
وكنت أجد عندما يتحدث واحة أنس في شكله ... وريحان عطر في كلامه ... وهندامه ... وكنت أحسّ بدفءٍ يتخلخل عظامي التي طالما اعترى البرد أوراقها ... ولطالما ضرب الخريف بها جنونه ...
وعندما تدور كأس المدامة الإلهية ... وتطفح ... ويبثها أقداحاً إثر أقداح ... أحسّ ببصري يملأه النور
وبعقلي تجلى من السكرة ... ويعود الصحو ... وأحس بوجهه قطعة قمر يعكس النور الوضّاء.
وأما أحاديث الروح فلا تَسل عن رحلتها ... فأنشودة الروح الحنين الى الله ... وكان يمثــّـل تأجُّجَ حنينها بيديهِ كتخبُّطِ طائرٍ يريد أن يطيرَ الى سماءِ حريةٍ لطالما عشقها وانتظر الفتح .... ليشرع بأجنحته في سمائها
لاتسلني عن ليالي مقمرات ... لاتسلني عن أيامِ هوى ً لا أنسَ ذكراها ما حييت ...
لاتسلني عن دموع ذقتها أحلى من العسل المصفى دموع تشرح حبي وحنيني... دموع لا تدري إلا هطلاً ... تعبّر بأحلى لسانِ مقال وتشرح عن حالي بأبلغ بيان ...
واذا فتحتُ فصول الحب في كتاباته وحديثَ الفؤاد كنت أذوب بين السطور ... وأعيش بين أدغاله التي يرسمها بريشة السحر والجمال والحب والحنان ...
أما العلم الشرعي فقد كنت أفهم العلم الشرعي بمقاصده ... وكان ممزوجاً بروح التصوف ... الإخلاصِ لله ... والأدب معه ...
وتهميش حظوظ النفس ومجاهدتها ... وحب الآخرين والإيثار لهم ... واحترام وحب عباد الله جميعاً لأنهم عباد الله ... وكره معصية العاصي لا لعاصي بعينه... والدعوة الى الله على أساس الحب والخوف على المنصوح ... والأخوة في الله.
والغيرة على الأسلام وحب الخير للناس جميعاً ... وبناء الأمة ... ووعي الواقع وإدراكه والحكمة في التعامل معه ... والكثير الكثير من المعاني التربوية والاخلاقية والعلمية التي لاتعدّ ولاتحصى.
وعندما كان يتلو القرآن كان يترجم عن مشاعر بوحٍ والتجاءٍ ... ونداء ضارع ... وحنينٍ باعث ودعاءٍ واجف ... وخشوعٍ لعظيمٍ جليل.
والدعاء بعفويةٍ وضراعة وعمقِ إحساس ... إنه علّمنا أن الدعاءَ مهنتنا ... وليس وسيلتنا فحسب ... وهو طابعنا نعبر به عن حالة عبوديتنا ... عن هوياتنا ... عبيداً مملوكين لقيّوم السماواتِ والأرض ...
وإلى الآن أذكر كلمة ًقالها ... إلى من يزعم أنه حرّ ... (والله عيبٌ أن تزعمَ أنك حرّ وسلاسل العبودية مكبلٌ بها ... إنما نحن عبيد مملوكين لله سبحانه وتعالى) هذه الهوية التي نقشت في نواة كل خلية من خلاياي وأسأل الله الثبات ...
كنت أشعر أنه يحمل همّ الأمة على كاهله ... والعديد من الحسرات في نفسه على حال أكثر المسلمين ... وقد كان ذلك جلياً عندما كان يدعو (اللهمّ اكفنا ما أهمنا وأنت أعلم بما نزل بنا) إذ كانت تضم معجماً لمفردات هموم وآمال وأحزانٍ رسخت في الفؤاد ... ولكن الأمل بالله – على الرغم من ذلك يجلوها- وخاصة ّ عندما يقول اللهمّ إننا ننتظر فرجك ...
وكم كان يردد شوقه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عندما يقول: (نحن وإن لم تكتحل عيوننا بمرآه فإن من الشوق مايبرِّح ويكفي).
وكان أن سمع المتظاهرين الغاضبين لرسول الله يرددون قول (بالرّوح بالدّم نفديك يا رسول) وعندما أخذ يعبر عن هذا الموقف وكأن تياراً من النشوة يلهب كيانه ... وسكرة الفرح تحيي خلاياه ... إذ كان ذلك نبضاً لحياةٍ مازالت في قلوب الناس حباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
إن معرفتي بأستاذي الدكتور سعيد نضجت عندما قرأت كتاب (هذا والدي)
حياة الشيخ مُلّا رمضان البوطي (رحمه الله) هذا الكتاب الذي طالما أبكاني ... وأثّر فيّ عميق التأثير.
لقد كان بحبّه لله وشهوده والسير على محكم شرعه والفهم عنه والبعد عن هوى النفس ... ولايةً لله وحده وابتغاءً لمرضاته في كل السكنات والأحوال ... هذا شأن رجلٍ حياته لله ... هجرته إلى الله إذ هاجر من بلده ومهوى فؤاده وترك المال والدار بسبب آية في كتاب الله ... فتوقّع كيف كانت سلسلة الإكرام له ولذرّيته ... إنه فرق كبير بين الكلام والحال ... لطالما كان الحال أبلغ تأثيراً من المقال ...
أقول ... إن جيلنا بحاجة لمثل هؤلاء العلماء الربانيين ... أن يتتلمذوا في مجالسهم ... وينهلوا من معينهم ... تراث النبوة الثرّ ... أن يجمعوا العلم مع العمل ... والعمل مع الأخلاق ... (فالأخلاق هي الثمرة لعقيدةٍ صحيحةٍ راسخةً في القلب ... وعبادات فرضها الله سبحانه وتعالى ... ومن ثمَّ تربية سلوكية ووجدانية) وأنّى لنا الأخلاق بغير هذا المنهج الرباني السديد.
في النهاية أقول جزى الله عنا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلّم ما هو أهله ... فإنما أتحدث عن خلفائه ... وهم به... فكل كلامٍ جميل وكل حرف مشرق نوّرت به أيامي ... واهتاجت به مشاعري وفاض به لساني وعجز عنه بياني ... كله ياسيدي يارسول الله ... إنما هو من غرّة جمالك وجلالك.
اللهم بارك لنا في شيخنا وأستاذنا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي واجعله اللهم من الذين أحببتهم فأحبوك مع العافية التامة ورغد العيش ودون ابتلاء هو وذريّته أجمعين ... والحمد لله رب العالمين.
تلميذك المحب: محمد حسين قاسم