على مدار التاريخ كله لم يحدث قط أن أنزل الله تعالى على الناس كتابا مسطورا يقرؤونه دون أن يكون ثمة رسول من البشر يحمله ويبلغه . بل كانت سنته تعالى أن يختار ويصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس
وكان الرسول البشري مكلفاً بتبليغ الوحي إلى الناس ، وأن يكون هو أول الممتثلين لأوامره و زواجره ، ولذلك كان شعيب عليه السلام يقول لقومه : "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه"
وقد ختم المرسلين بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي كان مسك الختام وواسطة عقد النظام وكان موته صلى الله عليه وسلم يعني نهاية تنـزل الوحي على بشر ، لقد انقطع بموته خبر السماء . وفي صحيح البخاري أن أبا بكر قال لعمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها " فلما جاءا إليها بكت فقالا لها : ما يبكيك : أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
قالت : أما إني لا أبكي إني أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء ! فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها .
إنها امرأة فقيهة حقا … إن فقد رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يكن سهلاً عليها كيف وهي حاضنته ومن أقرب الناس إليه وكان عليه الصلاة والسلام يحبها ويتلطف معها ، وكان ابنها أسامة وزوجها زيد من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالذي يهون فقده . لكنها نظرت إلى الجانب الآخر … الجانب الذي نظر إليه حسان بن ثابت وهو يقول في رثاء رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فقدنا الوحي والتنـزيل فينا ---- يروح به ويغدو جبرائيل
ولكن فضل الله أدرك هذه الأمة الممتدة في أحقاب الزمن إلى يوم القيامة بأن جعل منها " ورثة " يخلفون الأنبياء في العلم والتربية ويهدون الناس إلى الحق والعدل(وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون )إنهم إذن " أمة " وليسوا آحادا معدودين .
وهذا معنى ما بشر به صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر الذي جاء عن واحد وعشرين صحابيا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خافهم ، إلا ما يصيبهم من اللأواء ، حتى يأتي أمر الله ، وهم ظاهرون على الناس " ، إنها منارات لا تغيب مهما ادلهم الظلام واحلولك الليل .
وهذا إيذان بامتناع هيمنة " الجاهلية " المطلقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يستثنى من ذلك إلا الفترة اليسيرة التي تسبق قيام الساعة حين يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك ، كما ورد في سنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم وغيرهما عن حذيفة بسند صحيح .
فهو – من جهة – خبر عن أمر قدري آت لا محالة مهما أرجف المرجفون ، وتشكك المرتابون ولا يشك في هذا أحد لأنه خبر يقيني لا ريب فيه . ولكنه – من جهة ثانية – تكليف شرعي للأمة أن تكون منها هذه الطائفة المجاهدة فهي من هذا الجانب كقوله تعالى:(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) فالأمة مطالبة شرعاً بتكوين هذه الطائفة وتمكينها من القيام بعملها ومباشرة مهمتها الربانية . وما هي مهمتها الربانية ؟
أهي البقاء على الحق والالتزام بالسنة – قولاً وفعلاً واعتقاداً فحسب ؟ أم هي أمر وراء ذلك وفوقه ؟ كلا … إن مهمتها أعظم من ذلك .
فإن الفرقة التي تقنع بصلاح نفسها دون أن تنازل الباطل وتقارعه إنما تسمى " ناجية " فحسب ، لأنها تجنبت طريق الهالكين من أهل الضلالة . أما هذه الطائفة فلم يصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد النجاة والسلامة ، بل أطلق عليها وصفا ذا دلالة عميقة " الطائفة المنصورة الظاهرة ".
فهي أولا : " طائفة " تلتف حول الحق وتدور معه حيث دار .
وهي ثانيا : " ظاهرة " ليست خفية مستترة ، ولا ضعيفة مهزومة ، تخجل من الحق الذي معها فتسكت عنه أو تبدله .
وهي ثالثا : "منصورة " وهذا يقتضي بداهة أنها" مجاهدة " لأن النصر لا يعطى إلا للمجاهدين في ميدان الكلمة وفي ميدان الدعوة وفي ميدان السيف .
فهي الواجهة التي تقارع أرباب المذاهب المنحرفة والأهداف التخريبية ، وتكشف ألاعيب المتآمرين من صرعى الشبهات أو صرعى الشهوات ، ومع الصبر واليقين تمنح النصر ويعطى زعماؤها و مبرزوها وسام الإمامة (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)
يقول سفيان رضي الله عنه " بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين " .
وإذا لم يكن زعماء هذه الطائفة ورؤساؤها هم العلماء الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم " ورثة الأنبياء " فمن يكونون إذن ؟
وإذا لم تكن وراثة النبوة بالعلم الصحيح المستقى من الكتاب والسنة ، وبتربية الناس على هذا العلم … فماذا تكون الوراثة إذن ؟ إنها مهمة العلماء الربانيين و من سار على دربهم (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ).