ما شاع في كتب تاريخ الأدب في العصر الأموي من قضيتي الغزل العذري والغزل الصريح، اتسم بالمبالغة وقلة التمحيص، وقد احتفى بهذا النوع جملة من مؤرخي الأدب في العصر الحديث ؛ وقد عول هؤلاء على ما ورد في (الأغاني) من أخبار أريد بها السمر ولم تُرَد الحقيقة، فصنع منها للحجاز وبواديه وبوادي نجد تاريخ أدبي غير صحيح، بل هو مبني على خيال القصاصين، وعلى خيال الشعراء. ودراسة هذه الأخبار قد أثبتت أنها مصنوعة كلها لتفسير أشعار بعض الشعراء. فالحجاز لم يكن فيه من شعراء الغزل الصريح سوى عمر بن أبي ربيعة و عبدا لله بن عمرو الأموي العرجي.
وقد كان عمر عفيفاً ظريفاً، يقول على سبيل التخيل وثبت اعترافه بأنه كان يكذب فيما يقول، وكانت مكانته الاجتماعية في قريش تأبى عليه أن يفعل ما يقول، وكان في غنى عنه بما أوتي من مال وجاه. وما كان ليصدق في قول يترفع عن تصديقه بالفعل سفلة الناس فضلا عن أشرافهم. أما العرجي فكان شريفاً غنياً كعمر، وكان رجلاً فارساً مجاهداً، ولم يرد ما يفيد أنه كانت له علاقة بالنساء إلا خبرين اعترف الأصفهاني أن أحدهما مصنوع، وأما الآخر فمصوغ على شاكلة الأول.
أما البوادي فلم يصح العشق عن أحد من شعرائها إلا قيس بن ذريح وجميل بن معمر، وغيرهما إنما كان محباً كما يحب كل أحد حباً عادياً، لا يخالف معهوداً في الحياة، أو كان مدعياً, وكل ما روي عن قيس وجميل لا يصح منه إلا أصل العشق وما عداه شيء صنعه الوراقون في العصر العباسي. أما المجون و مجالسه فقد قامت الأدلة على أنه كان ضرباً من الخيال صنعت أخباره في العصر العباسي، بدليل أن الذين نسبت إليهم أخباره من الأخباريين والنسابين لم يرد له ذكر في شيء من كتبهم.
وإذا صح أن عصراً دام أكثر من تسعين سنة عشق فيه رجلان فما ينبغي أن يجعل عشقهما ظاهرة يستنفد فيها من الورق والمداد ما استنفد في الغزل العذري، إلا من أجل النقد والتمحيص لا من أجل كتابة تاريخ من الخيال. وقد تتبعت بالدراسة أخبار العاشقين في الجاهلية وصدر الإسلام وبيِّنت ما بينها وبين أخبار الأمويين من التوافق الذي يحمل على الظن أن بعضها صنع على شاكلة بعض، وأنها ليس فيها ما يصح غير أصل عشق عروة بن حزام، وعبد الله بن علقمة، وكيف تطور التزيد فيهما من الكتب الأولى التي تناولت أخبارهما إلى الكتب التي ألفت في العصور المتأخرة.
وتبين أن ليس فيها شيء يصح أن ينشأ عنه واحد من الغزلين، كما بينت حقيقة حياة أهل الحجاز في ذلك العصر وبُعدها مما ظن بها مؤرخو الأدب على سبيل التوهم.
مما سبق يتضح لنا أن صاحب الأغاني ومن تبعه أرادوا بسوء طوية أن يجعلوا من أخبار العشاق وأصحاب المجون قضية و أنهم كانوا جزء من المجتمع بل صوروهم أنهم كانوا في صدارة المجتمع ، وكل ذلك افتراء لا يثبت أمام التمحيص ، وأسانيدهم فيه مقطوعة وواهية ، إذ كان ذلك العصر عصر فتوحات وبناء وعلم ولم يركن الناس وقتها للخمول والدعة ، ومن فعل ذلك نظر إليه بازدراء ومقت .