(عند الشفق
لا تطوِ الليل لتُعَّجِل بالصباح
الليل عنيد، لن يسمح بسلب حقه،
فيعود أكثر سطوا..
و إن كان الليل نقصا فالنقص
تمام سِيَرِ الأشياء.)
كلانا كان يولي ظهره لقصة دموع و غصة قلب.. يقال أن الأشياء من نفس النوع تنجذب لبعضها.. فأي جاذبية هذه جعلتنا نقرر بعد أسبوع من تعارفنا الارتباط الأبدي؟ جعلتنا نركن للأرض للتراب ندس فيه أسانا.. فلم نختر رملا لا يُنبت زرعا و الذي إن انبت فصبًّار.
لماذا زرعتَ في أرضي بذرة مشوشة حين نبتت و تفتحت زهرتها أسميتَها "فاطمة".
كلانا كان في لحظات شفق، يسدل الستار و يستعجل النهار..
و عند شفق الغروب يلفظ كل ضوء أنفاسه الأخيرة ليجثم ليل ما كنا لنقوى عليه، لأجل هذا خرقنا نواميس الطبيعة و قوانين التعاقب و اكتمال سير الأشياء، و لم نشأ أن نكور ليلنا على نهارنا..فوصلنا شفق الغروب بالشروق. التقينا و طوينا ليل الفراق حتى إذا تفتحت أعيننا أبصرنا حقيقة سميتَها "فاطمة".
رزقنا فاطمة في السنة الأولى لزواجنا، أنت من اختار لها هذا الاسم. وقتها لم أرمقك بنظارات الريبة كما تفعل معظم الزوجات.
و ما جدوى الارتياب في حضور اليقين، فاطمة هي ما أردتَ أن تتركه وراءك فجعلته بيننا.
و ما كنتُ لأعترض أو أعاتبك على منح اسم فاطمة لطفلتنا، فقد كنا هاربين من العتمة، فاستجرنا بالصمت فلنعم المجير. و أقوى أنواع الاتفاق الصمت. صمت لا يشعل الذاكرة بل يتقن تخديرها، الصمت الشيء الوحيد المستقر بيننا و الضامن لاستمرار حياة كحياتنا معا.. و لانسياب أيامنا بسلاسة دون احتجاج و ارتياب و دون تماد لـ "لماذا" في كل ركن من أركانها.
"فاطمة" تميمةٌ لحبيبتك القديمة علقتها على طفلتك ، هروب من النسيان للذاكرة، ذاكرة حية تمشي على قدمين و تكبر كل يوم..
كلما نظرتَ لطفلتنا لمحتُ بريقا في عينكَ لم أعرف يوما إن كان حنينَ رجل لعشق ولَّى أم فرحة أب..
فاطمة، طفلتي التي أيقظت الأنثى فيّ. بل أشعلتها.. أنثى انبعثت من رماد تجربة أطفأها الصمت و وجدان تحرك لزوج تقاسمتُ معه كل شيء إلا قلبي..
أهو بفعل التعود؟ أم لدماثة خلقك؟ أم هو الصمت أول مدارج التأمل..
بل الطبيعة التي لا تحب الفراغ..
كلما كبرت فاطمة ازداد تشظيَّ، حاصرتني الحيرة و أطبق علي الالتباس.. و تشوشت علاقتي بها. فاطمة تثير في مشاعر الأمومة و بذات الوقت مشاعر امرأة. كلما حضنتُها تماهى لي طيف غريمتي. و انتزعتها من بين يديك كلما هممتَ بضمها.
و يزيد ارتباكها و ارتباكنا.. يعظم الصراع داخلي، صراع لا رحمة فيه تتنازعني الأم الودود و المرأة العاشقة. فؤادي مِرجل، تتقاذفني مشاعر حب و كره و عشق و غيرة و غضب و حنو و أسى. و طاحونة فوضى لا تفرز إلا قسوة ترنو بي إلى الجنون.. الجنون اختيار إنساني للـ لا قسوة.
و لكم تمنيتُ أن اقذفها في تابوت و أن اقذفها في يم خوفا عليها من فرعنة و جبروت الأنثى حين تتجلى و تستحكم..
كل هذا و الصمت بيننا ميثاق غليظ و موت مطبق متراكم لا نشور بعده. لاشيء يرأب الصدع و يلئم الجرح غير عاصفة عُتُوها يدمر قلاع الصمت
و أنا أجبن من أن تولد العواصف من رحمي.
فاطمة تجل لليل قديم طويناه فانفرد و استطال سرمدا، طفلتي أيقونة لحبيبتك، ما فطم بيننا و لا شيء يمكنه أن يقوض حماقاتنا المشتركة و المتقاطعة فما كنت لترمقني بنظرة ريبة كما يفعل معظم الأزواج حين قررتُ أن اسميَ مولودنا الثاني ياسر. فما جدوى الارتياب في حضرة اليقين.. ياسر كفاطمة فجيعة لصمت النوايا.