وسط الدار أمامها قصعة تعجن خبزا..
لم نشهد لحظة الميلاد، لكن قطعا عاينا أمََّا تصنع رغيفا..مشهدان من نفس الطينة، طينة التكوين و الخلق..حيث تتقد حواسها، تتحد مع جوارحها و قلبها لصنع الخبز كأحد أسباب الحياة، تعطيه من دمها حتى خارج رحمها فيكون الأمر مضنيا أكثر و بين عالم أللأسباب و الأسباب حكمة الودود..
تنحني على قصعتها لتصنع خبزا لمائدة الإفطار لرابع أيام رمضان..
تدلك العجين دلكا و معه اعتصر القلب و فاضت المدامع.. وجدانها جذع شجر هرم و أجوف يتردد داخله صدى كلماته حين اتصل صباحا :
- ابنكِ سرقني..
- أخوك
- ابببنكِ سرقني. لم يقنع بعمولته كوسيط في عملية فطمع في بلعها كلها، كان عليه أن يحول لي ما أداه الزبون لكن كرشه كبرت..
- أخوك
إذا كانت كلمة ابنك وحدها تذبح فكم من الأرواح لنا كي تُقبض. و كم لنا من قلب في جوفنا كي نستبدله كلما انفطر. و كم لنا من عمر نبدؤه إذا فني آخرُ في لحظة..
ابني أخوك لم يسرقك بل سرق الحياة من شراييني، أوقد النار في الهشيم، و جعلكم رياحا تذروه.
ابني أخوك لم يمهلني بل استعجل قيامتي و قيامة بيت عنكبوت أبعدتُه طويلا عن مهب الريح و عن الهجير..
- يا عبد الغني يا ابني دعني أحدثه و إن شاء الله سأقنعه برد مالك لك..
- نعم أقنعيه أحسن له- قولي له يعطيني رزقي- و إلا سأكون في الدار البيضاء قبل أذان المغرب..
تلف العجين لفا و كأن بها وجع مخاض و آلام طلق..يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا..
يعتصرها الحزن و تذَكُّرُ كلام يزيد يفقأ مآقيها لما طلبت منه إعادة المال لأخيه :
- لن أعطي ابنك شيئا ..
- أخوك.
- ليس لابنك عندي شيء..هو حقي، حقي القديم..
- أخوك.
متى تطاول صرح الدجى، و امتدت جذور الليل تحت مبانينا.. و ما كان في رقعة القلب كلام الجليل حتى تُبقي عليه أرضة الحقد..
الخيمة كانت بلا وتد.. العش نخر في عوده الحسد ولم يُبقي حقا للوالد على الولد..
تَفْرِدُ العجين فردا.. و في العين غيمة. تفرد تاريخا وكل الخطوات. تتسلق جدار الذاكرة و الزمن .. و كانت البداية، بطنان و رحم واحدة.. أولا يزيد و بعده بعام و نصف عبد الغني. و الثدي ذاتها أرضعت. و اليد نفسها حنيت و هدهدت..أطعمت و سقت.. ربتت و واست...
رفيقَا شغب طفولي و شقاوة.. و مقالب مشتركة لا تنتهي، ثم سالكيْن دروب التحصيل و العلم، تقاسما لحظات النجاح و الإخفاق أيضا..كانا يعلقان على أحد جدران غرفتها سبورة سوداء كبيرة يحلان عليها المسائل الرياضية.. كانا بارعين في الرياضيات..
كل هذا أصبح اليوم مجرد رفات.. الإخوة غدوا أعداء.. ألداء..
تُكور العجين، وصل عبد الغني من الرباط..
- أين هو؟ أين ابنك؟.. اليوم سنذبحه.. و على من يريد أن يعيش في خيري أن يمسكه معي سنسلخه كالشاة..
ملتَ يا ابني لمالك و ما همك مآل أمك..
لمن تصوب رماحك؟ و تشحذ سيف عداوتك؟ لمن تحفر قبرا تنصب مقصلة تشنق فيها أسمى المعاني..
الخبز في التنور، اقترب المغيب..وجهها كأنه ورقة اختطف منها الربيع فجأة..القلوب لدى الحناجر.. هكذا هي مساحات الفراغ حين يطبق و الانتظار لما يستبد، حيث كل الأضداد حاضرة ترقب و تستعد للدفاع عن ذاتها و الصراع من اجل وجودها فقط الاختيار الإنساني هو الذي يدحض واحدا و يقيم آخر ..كل الأضداد موجودة بقوة و شراسة: الحب و الكراهية.. السلم و الحرب.. الشر و الخير و سلطانها رهين قرارنا..و توليها فرمان نوقع عليه بإرادتنا.
جاء يزيد.. التقى الجمعان..الفجيعة لا تخلف المواعيد و لا تخطئ الأبواب.
و اشتعل الحريق، التهبت نار الحقد والتهمت كل شيء الأخضر و اليابس، تعب السنين و نصب الليالي..
و كل المعاني..
التهب الخبز في التنور..ابيضت عيناها من الحزن و توسدت الرماد..
وآن أن تجهز للأُخُوَّة غسلا و مرثية و كفنا.
انه الغروب.. ارتفع التكبير من على المآذن، أرضهم كانت أكثر صخبا لتسمع نداء السماء..نداء يعلن للناس نهاية الصيام و معه بداية صيامها عن الفرح.
اليوم لن يأكلوا خبزا فقد استوى على تنور القلب.