تربية الاطفال بالسخرية
من باب التسلية كان الأب يطلق على كل واحدٍ من أبنائه وبناته اسم حيوان.. طريقة غريبة بل منفرة للتدليل!
فالابنة
الكبرى عرفت نفسها منذ الصغر بـ"البقرة"، وأكبر أبنائه الذكور تعود أن يرى
الحياة بعيني "قرد".. هكذا يناديه أبوه دومًا إلا إذا أخطأ يومًا وسها
فناداه باسمه الحقيقي.. وآخر العنقود لصغر جسمها ودقة ساقيها فكانت
"المعزة".. وبين البقرة والمعزة حيوانات أخرى بعدد الأبناء الستة.
لم
يشعر الأب يومًا بالذنب أو يفكر في فداحة ما فعله، فالأمر بالنسبة له بسيط
جدا.. إنه يلاعب أبناءه ويدللهم، والملاطفة والملاعبة في نظره كانت بنقل
"حظيرة الحيوانات" إلى منزله.. لم يعد الأبناء ينزعجون من هذه الألقاب
المشينة، ولكنها ربطتهم طوال حياتهم بالحيوانات، وشعروا دومًا بقلة قيمتهم،
ومهانتهم وارتباطاتهم الحيوانية!
وإذا
كانت هذه صورة لاذعة للسخرية من ذوات الأطفال والتنابز بالألقاب – الذين
هم بالأصل أمانة من الله وليسوا ملكيات خاصة للأبوين- فهناك صور أخرى أكثر
انتشارًا في البيوت، ومنها:
ـ معايرة الطفل بسماته الجسدية، ومناداته بوصفه الجسماني، مثل: البدانة، النحافة، ضعف النظر، القصر أو الطول...إلخ.
ـ تقليد الطفل بطريقة مضحكة، سواء في مشيته أو صوته أو حركاته المعتادة.
وكثيرًا
ما يقع هذا بين الإخوة، وقد يتفنن الأخ الأكبر في السخرية من إخوته، وهو
أمر لا ينبغي التغافل عنه من قبل الوالدين إذا تعدى حدود المزاح العابر
المتقبل إلى الإهانة والإذلال.
ـ
يحلو لكثير من الآباء والأمهات أن يستخدموا السخرية الموجعة ظنًا منهم
أنها طريقة فعالة في تقويم السلوك.. ومن الشائع أن تستخدم الأم السخرية
المستقبلية مع ابنتها المتكاسلة عن ترتيب غرفتها مثلا.. فتقول لها: بأنها
ستضيع زوجها وأولادها في المستقبل، وأن بيتها سيكون كمقالب القمامة وما إلى
هذا من الاستعارات المكنية الخلابة في الإحباط.. والتي ترددها الأم
باستمرار، وأحيانًا أمام الأهل والمعارف والصديقات.
والمفارقة
أن مثل هذه الكلمات غالبًا ما ترسخ السلوك المرفوض، وتخلق ارتباطًا قويًا
ودائمًا بين الفتاة والإهمال، أو بين الفتى وضعف الإحساس بالمسؤولية.
تأثير السخرية:
1ـ أول أثر سلبي لشيوع السخرية في البيت هو المشاحنات ونشأة العداوات، وسعي كل طرف للانتقام بشكل أو بآخر ممن يسخر منه.
2ـ
ضعف الثقة بالنفس، والشعور بقلة احترام النفس ومهانتها.. وهي أمور خطيرة
ولها تداعيات نفسية وسلوكية شديدة السوء، مثل: الإحباط والاكتئاب، وعدم
الترفع عن الأفعال المشينة، والميل لصحبة السوء، وعدم صيانة النفس عن
الرذائل، والعزلة والانطواء، والخوف المرضي من الناس...
3ـ
اتخاذ الموقف الدفاعي دومًا.. فمن تعود أن يُسخر منه في بيته، يكون
متحفزًا تجاه النصيحة، وغير متقبل للتوجيه أو النقد وإن كان بناءً.
4ـ
التعود على رد الإساءة بالإساءة وبسرعة وقوة، فمن تربى في بيت تُشاع فيه
السخرية، فإنه يتعلم أن البقاء للأغلظ والأفظ.. وأن الهزيمة في الحِلم
والصمت والخلق الحسن، لذا فإنه يكتسب مهارات سيئة ترتكز على جرح الآخرين
وإيلامهم والتركيز على عيوبهم ونقاط ضعفهم وعرضها بطريقة هزلية وجارحة.
وقد
تشعر مثل هذه السلوكيات الشخص بقوته، وأنه لا يستطيع أحد أن يتعدى عليه أو
يتهاون به، ولكن حقيقة الأمر أن الناس غالبًا تتقيه لفحشه، ولا يثقون به
أبدًا، أو يشعرون تجاهه بالمحبة والتقارب.
5ـ
من أبرز الآثار السلبية للسخرية أيضًا أنها تجعل إساءة الظن هي الاحتمال
الوحيد والمسلك السهل لمن تربوا عليها، فهم يحملون أفعال الناس وكلماتهم
دومًا على المحمل السيء، لأنهم تعودوا على أن الكلمات والتشبيهات غير بريئة
وإنما تحمل في طياتها الإساءة.
6ـ
قلة الذوق في التعامل مع المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، ومن يمرون
بظروف صعبة سواء صحية أو معيشية، فخريج بيت السخرية غالبًا ما يكون قليل
التعاطف، ومفتقد لقواعد اللياقة.
7ـ خسارة السلام النفسي، وامتلاء القلب بالحزن مهما نجح الشخص في إظهار العكس، أو حتى السخرية من نفسه.. فإنه تبقى داخله آلام.
كيف يواجه أبناؤنا السلوك الساخر؟
يظن
البعض – خطئًا- أن الأجواء الساخرة في البيت تجعل الأبناء أكثر قوة
واحتمالًا لما قد يلاقونه في مجتمع المدرسة أو الجامعة أو الشارع... وهذا
ليس صحيحًا، وحتى وإن كان الأبناء في هذه البيوت يكتسبون سماكة في مشاعرهم،
وتبلد في أحاسيسهم، فهذه ليست الطريقة الصحية لإكسابهم القوة.
بل
إن تربية الأبناء على الآداب الإسلامية التي تحرم السخرية والتنابز
بالألقاب الغيبة ونحوها هي ما يقويهم، ويجعلهم يتعاملون مع السخرية
باستهانة ونفور، ويتجاهلون الساخر بترفع وقوة.. ويعلنون في مجتمعاتهم أنهم
لم يعتادوا على التعامل بهذه الأساليب الرخيصة، أو جرح مشاعر الآخرين
وإيذائهم.. يتلون آيات الله باعتزاز : { يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن
يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ
خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا
بِالأَلْقَابِ}. الحجرات-11.
وختامًا
فهناك فرق كبير بين المزاح والمداعبة وبين السخرية الموجعة المهينة،
فالأولى تقوي الروابط الأسرية، وتشيع البهجة والسعادة والحب، أما الثانية
فتسلب البيت دفأه وأمانه، وتبذر الكراهية والنقمة.