معنى {الصَّمَدُ}
كلمة {الصَّمَدُ}: تريد أن تعرِّفنا أنّه سبحانه هو الدائم الرفيع الذي لا يستمد من أحد، ولا يحتاج إلى غيره، فإذا كان المخلوق يحتاج في وجوده إلى موجدٍ يوجده ويربِّيه، وإلى محيٍ يمدُّه بالحياة ويحفظها عليه، وفي قوته إلى قوي يمنحه القوة ويبعثها فيه، حتى إذا ما انقطع عن هذا الإمداد لحظة انعدمت قوَّته، وانقطعت حياته، وانمحى وجوده، وزالت عنه كل موهبة، وافتقد كلَّ خلق أو صفة كانت لديه، فالله تعالى لا يستمدُّ من أحدٍ، ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الصَّمدُ في ذاته، وفي كل صفة من صفاته.
وحياته تعالى ذاتيةٌ، وهو الصَّمَدُ في حياته، أي: أن حياته سبحانه لم تأتِ من سواه، بل هو مصدرُ الحياة، وهو الذي يبعث الحياة في الأكوان كلّها، وفي كل ذرة من ذرات هذا الكون وغيره من الأكوان، وكل صفة من صفاته تعالى ذاتية لم يستمدها من غيره، بل هو صَمَدٌ في ذاته وصفاته. صَمَدٌ في ذاته وفي كل اسم من أسمائه فلا تتغير أسماؤه ولا تتبدل ولا يعتريها نقصان أو زوال.
وبشيء من التفصيل وتعريفاً وتوضيحاً لمعنى كلمة ( الصَّمَدُ ) نقول:
الصمد: هو الذي يمدُّ ولا يستمدّ. والصامد من كل شيء: الصلب المتين لا ضعف فيه ولا خَوَرْ، يقال: صمدت الصخرة أي ثبتت راسخة فإذا هي لا تتزعزع ولا تتزلزل تجاه المؤثرات، وصمد القائد في وجه العدو، أي: ثبت في المعركة فإذا هو كالجبل الراسخ لا ترهبه قوة ولا تزلزله كثرة عدد أو عدة ولا تفل من عزمه مكيدة أو حيلة، والصمد من القوم هو السيد الذي يعتمد عليه الناس في أمورهم ويلجؤون إليه فيما ينزل بهم فلا يبرمون أمراً دون مشورته ولا يصدرون إلا عن رأيه اعتماداً منهم على راسخ علمه وثاقب رأيه وعظيم قوته وقدره.
أما وقد مهَّدنا للمعنى بما أوردناه من شرح وأمثلة فنقول:
إذا كان أناس يصفون بكلمة {الصَّمَدُ} شخصاً من الأشخاص بناءً على ما اعتمدوه فيه من علم وقوة وعظيم قدرة على مجابهة الخطوب والصمد أمام مصاعب الحياة، فإن هذا الوصف وهذه التسمية لا تخلو من مبالغة بل هي في الحقيقة غلو ومغالاة، والصمد هو اسم من أسماء الله وليس يجوز أن يُسمَّى بهذا الاسم أحد سواه. نعم إنّ الله تعالى قد يمد بشراً من البشر بطرف من القوة والعزم فإذا بك تراه أقوى من كل إنسان ولكن هذه القوة العظيمة وهذا العزم الشديد الذي أمدَّ الله تعالى به هذا الإنسان لا يسوغ لنا أن نقول أن هذا الرجل صمد في قوته لأن الصمد معناه كما رأينا المتين الذي لا يطرأ عليه ضعف أو خور ونقصان، وهذا الرجل قد يصيبه مرض من الأمراض أو قد يتعرض لمؤثِّر من المؤثِّرات فإذا به وقد انحلَّت قواه وأضحى لا يستطيع حمل نفسه، فضلاً عن مجابهة الخطوب ومقاومة المؤثرات، ذلك لأن القوة التي أمد الله تعالى بها هذا الإنسان إنما هي وديعة أودعها الله تعالى فيه، فلمَّا شاء استردها أو طرفاً منها وهنالك يبدو لهذا المخلوق ضعفه وافتقاره الدائم إلى الله.
وكالقوة: الحياة والعلم والحكمة والرأفة والحنان والرحمة، وغير ذلك من المعاني، فهي بالنسبة للمخلوق صفات وأعراض تدوم للمخلوق ما دامت الحضرة الإلهية مواصلة بها الإمداد عليه، فإذا ما زوى الله تعالى عن المخلوق ما أمدَّه به أضحى محروماً منه مفتقداً إياه، وليس يمكن أن يعيده إليه أحد إلا الله.
أما القوة بالنسبة لله تعالى فهي ذاتية، أي: لم تأته من أحد فيستردها منه، بل هو تعالى صمد في قوته، أي: باقي القوة، متينها فلا يمكن أن تزول قوته تعالى ولا يمكن أن يطرأ عليها ضعف أو نقصان، وكذلك الحياة والعلم والرأفة والرحمة وغير ذلك من المعاني، فهي كلها بالنسبة لله تعالى ليست بصفات ولا أعراض، بل إنما تشير إلى أسمائه تعالى، والأسماء ثابتة لا تتغير ولا تتبدل فمن أسمائه تعالى القوي والحي ومن أسمائه تعالى العليم والحكيم والرؤوف والرحيم، وهو سبحانه صمد في قوته، في رأفته وحكمته، صمد في كل اسم من أسمائه فلا يطرأ على أي اسم من الأسماء الإلهية ضعف أو تبدُّل أو نقصان.
فالصمد: هو الذي يمدُّ دوماً ولا يستمدُّ أبداً.
جميع ما في الكون يستمدُّ منه تعالى الرأفة والرحمة والحنان، وهو وحده الممد فما المخلوقات كلها في حياتها ووجودها وما المخلوقات كلها في قوتها وبقائها إلا كالمصباح يبقى له الاشتعال وتدوم فيه الإنارة ما دام له الإمداد فإذا ما انقطع عنه الإمداد انطفأ وانمحى نوره وزال.
وهكذا فالكون كله في افتقار دائم إلى الله تعالى، والله سبحانه هو الصمد في سائر أسمائه فإذا اعتمدت عليه في أي أمر من الأمور فقد اعتمدت على سند قوي متين ومالك من سند ومالك من مُعْتَمدٍ سواه.
هذا وإنه لا بد لنا بعد أن فصَّلنا ما فصَّلناه من أن نسوق الكلمة التالية فنقول:
لقد أتينا في التعريف بكلمة {الصَّمَدُ} على ضروب من الشرح والإيضاح، فلم نأل جهداً في الشرح اللغوي وضربنا مختلف الأمثلة وجئنا بنماذج عديدة من الأقوال تبياناً لذلك المعنى الذي اشتملت عليه كلمة {الصَّمَدُ}، ولكن ذلك كله لا يمكن أن يصل بك إلى حقيقة المعنى ما لم تسلك طريق الإيمان الذي شرعه الله تعالى لك على لسان رسوله الكريم، فإذا أنت لم تتعرف إلى خالقك ومربيك الذي حنَّت يده عليك بالإمداد والتربية وأنت في بطن أمك تمر من طوْر إلى طوْر ثم ما زالت تُعنى بك حتى صرت في هذا الحال من الكمال.
وإذا أنت لم تعقل هذه الحقيقة ولم تؤمن هذا الإيمان المبني على التفكُّر والنظر والاستدلال، فما الشرح الطويل ولا البيان اللغوي ولا الأمثلة مهما تعددت وتنوَّعت بمغنية عنك ولا معرِّفة إياك بحقيقة المعنى، إنك تظل في عالم الألفاظ والشروح اللغوية ولست بمستطيع أن تتذوق المعنى تذوُّقاً نفسياً ولا أن تجوز عالم الألفاظ واللغة إلى عالم الرؤية والمشاهدة النفسية.
وفي الحقيقة ماذا تغني الشروح اللغوية عمَّن حُرم حاسة الذوق إذا أنت أردت أن تصف له مذاق العسل أو بعض الفواكه والأثمار، وماذا تغني الأمثلة العديدة والبيانات البليغة من أعمى محروم من حاسة الرؤية، إذا أنت أردت أن تصف له جمال حديقة من الحدائق وأن تعرِّفه ببديع تناسقها وعظيم خلقها.
إنك في عالم المشاهدة والرؤية وإنه في عالم الخيال والظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، أما إذا أنت سلكت الطريق التي شرعها لك ربك وتابعت السير فيها خطوة إثر خطوة حتى وصلت إلى الإيمان الحق فهنالك تكتحل عين بصيرتك بنور المشاهدة، مشاهدة الحقائق التي تشير إلى الألفاظ فترى من كلمة {الصَّمَدُ} وأمثالها معاني جمّة تسبح نفسك في مشاهدتها سبحاً طويلاً، وتستغرق في هذه المشاهدة استغراقاً عظيماً فإذا أنت في خضم واسع من الرؤية التي تمازجها السعادة النفسية وهنالك تتذوق من القرآن حينما تقرؤه حلاوة، وتجد له حينما تسمعه حسناً وطلاوة تزداد بربك حبّاً وله تعظيماً، ويتضاءل في عينيك سعي أولئك الذين يتيهون في التعرُّف إلى معاني القرآن باحثين في بطون الكتب وتستصغر همة الذين وقفوا من وراء حواجز الألفاظ يتخبطون في الأوهام، وقد ضلّ سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، إنك تشكر الله تعالى على فضله وتحمده على ما عرَّفك به من القرآن من كماله تعالى وجلاله وعظيم أسمائه، قال تعالى:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} سورة الإسراء: الآية (82). ولا أريد أن أسهب في هذه الناحية كثيراً، ولا أطيل لأن الصادق يغنيه الإيجاز عن الإسهاب والإطناب، ويكفيه لطيف الإشارة عن طويل العبارة.