هدم حي المغاربة في القدس
جريمة في حق التاريخ و الحضارة
خلال نكسة عام 1967, سقط الجزء الشرقي من مدينة القدس والذي كان تحت
الإدارة الأردنية, في قبضة الجيش الإسرائيلي. بعد وقت قليل من دخول الجيش
المنتصر إلى المدينة, لفت ضابطٌ يُدعى "أبراهام شتيرن", انتباه "موشي ديان "
إلى وجود مراحيض ملتصقة بحائط البراق , فأعطاه إذناً بهدمها. ولأن قيادة
العدو كانت تستعد لاستقبال مئات الآلاف من اليهود في عيد نزول التوراة عند
ذلك الحائط, ولأن المكان الضيق بينه و بين بيوت الحي المجاور لم يكن يتَّسع
إلاَّ لِبضع المئات, فقد تقرر في العاشر من يونيو هدم الحي بأكمله. خلال
بضعة أيام, أُزيح تماماً حَيٌّ أطلق عليه المقدسيُّون اسم "حارة المغاربة"
لِمُدة 774 عاماً.
كان هذا الحي رمزا لتعلق المغاربة بالقدس الشريف, فمنذ السنوات الأولى
لاعتناقهم الإسلام, كان جُلُّهم يمر بالشام بعد إتمام فريضة الحج حتى ينعم
برؤِية مسرى الرسول (ص) و يحقق الأجر في الرحلة إلى المساجد الثلاثة(المسجد
الحرام و المسجد النبوي و المسجد الأقصى). كان المغاربة يقصدونه كذلك طلبا
للعلم, كما أن الكثير من أعلام المغرب أقاموا هناك لبضع سنوات, كأمثال
الشيخ سيدي صالح حرازم المتوفي بفاس أواسط القرن السادس و الشيخ المقري
التلمساني صاحب كتاب "نفح الطيب".
لم تكن فريضتي الحج و طلب العلم هما الدافعان الوحيدان لتواجد المغاربة في
تلك البقعة الشريفة, بل كان هنالك دافع ثالث لا يقل أهمية و هو المشاركة في
الجهاد خلال الحروب الصليببية. فقد تطوع المغاربة في جيوش نور الدين
وأبلوا بلاءاً حسناً, و بقوا على العهد زَمنَ صلاحِ الدّين الأيوبي إلى أن
تَحرَّرَت المدينة من قبضة الغزاة الصليبيين . بعد الفتح, اعتاد المغاربة
أن يجاوروا قرب الزاوية الجنوبية الغربية لحائط الحرم الشريف, أقرب مكان من
المسجد الأقصى.
وعِرفَاناً منه, وَقَفَ الملك الأفضل ابن صلاح الدين الأيوبي هذه البقعة
على المغاربة سنة 1193 (583 ه) و هي نفس السنة التي توفي فيها صلاح الدين
بعد خمس سنوات من فتحه المدينة. سُمي الحي منذ ذلك الحين باسم حارة أو حي
المغاربة, وكان يضم بالإضافة إلى المنازل عديداً من المرافق, أهمها المدرسة
الأفضلية التي بناها الملك الأفضل و سميت باسمه
عمل الكثير من المغاربة بعد ذلك على صيانة هذا الوقف و تنميته, باقتناء
العقارات المجاورة له وحبسها صدقاتٍ جارية. من أشهر هؤلاء, نذكر العالم أبا
مدين شعيب تلميذ الشيخ سيدي صالح حرازم ودفين تلمسان (594 ه) الذي حبس
مكانين كانا تحت تصرفه, احدهما قرية تسمى عين كارم بضواحي القدس والآخرُ
إيوانٌ يقع داخل المدينة العتيقة و يحده شرقا حائط البراق. ظلت جميع تلك
الأوقاف محفوظة عبر السنين, وظلت الدُّول المتعاقبة على الحكم تحترمها خاصة
أيام الفتح العثماني و حتى بعد الإحتلال البريطاني. إلى أن كان العدوان
الصهيوني...
في شهر يونيو 1967, صَادَرَ الكيان الصهيوني حي المغاربة, وفي اليوم العاشر
من نفس الشهر قامت قوات الإحتلال بإخلاء سكانه لتُسويه بالأرض و لتقيم
مكانه ساحة عموميةً تكون قبالة حائط البراق. خلال بضعة أيام, أتت جرافات
العدو على 138 بناية كما هدمت جامع البراق و جامع المغاربة. و ما لبث أن
لحق نفس المصير بالمدرسة الأفضلية و زاوية أبي مدين والزاوية الفخرية ومقام
الشيخ .
هكذا, و في أيام معدودة, زالت من خارطة القدس ثمانية قرون من تعلق المغاربة
بتلك الديار. و حتى هذا اليوم, مرت خمسة و ثلاثون عاما على وقوع تلك
المصيبة, و الخوف كُلُّ الخوف من أن تزول تلك القرون و ذلك التعلق من
الوجدان والذاكرة.