العُمْلة في العصر العباسي :
بعد انتقال الخلافة للعباسيين في سنة 132هـ، انتقلت السلطة من الشام إلى العراق. وبما أن العملة تعد رمزًا للأسرة الحاكمة في العصر الإسلامي؛ فقد أمر الخليفة أبو العباس بإزالة شعار الأمويين من نقوش العملة، فاستبدل بسورة الإخلاص من ظهر العملة عبارة نصها: ¸محمد رسول الله·.
وفيما عدا ذلك استمر استعمال النقوش القرآنية بالخط الكوفي على الدنانير الجديدة، كما حافظ العباسيون في بداية الأمر على استمرار ضرب الدنانير الذهبية في كل من مصر ودمشق حتى عام 198هـ، حيث بدأت الإشارات الأولى نحو التغير تظهر على العملة العباسية منذ عهد الخليفة المهدي الذي أمر بنقش علامات منقوطة، أو حروف تفيد بضبط العملة وتحديد صلاحيتها للتدوال.
وفي عهد الخليفة هارون الرشيد، سُكَّت دنانير نادرة في دور الضرب ببغداد والفسطاط. وفي عهد الرشيد أيضًا 170 ـ 193هـ، حدث تطور رئيسي في نظام السَّك؛ حيث أمر أن ينقش اسمه واسم ابنه الأمين على العملة الذهبية. وقد شجع هذا النظام الإداري الجديد الولاة والعمال في الأمصار على نقش أسمائهم، فظهرت لأول مرة أسماء ولاة مصر على الدنانير الذهبية، ومن أمثلتها الدينار الذي يحمل اسم الأمير علي بن سليمان بن علي العباسي، الذي تولى أمر مصر 169-171هـ. وقد أحدث هذا التغير أثرًا سلبيًا على العملة العباسية وبخاصة الدنانير الذهبية؛ حيث بدأ حجمها يكبر وسمكها يقل، وأصبحت الكتابات تنقش على الهامش في سطرين عوضًا عن سطر واحد، وأصبح الخط الكوفي أكثر رشاقة.
وفي الفترة (218-234هـ، 833-848م)، لم تحدث أي تغيرات مرسومة على العملة العباسية لا من ناحية النقوش ولا من ناحية الكتابات.
وأصبحت عملة المأمون هي العملة القياسية حيث كان شكل دينار المأمون يشتمل على وجه نقش في مركزه (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، وعلى الإطار الداخلي (بسم الله ضُرب هذا الدينار في…). وعلى الإطار الخارجي (لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله). وعلى ظهر الدينار في داخل المركز نُقشت عبارة نصها (محمد رسول الله ـ للمأمون ـ مما أمر به الأمير رضا ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن علي بن أبي طالب).
ومع ضعف الخلافة العباسية حدثت، تغيرات جوهرية في العملة، نتج عنها اختلاف أوزانها ونقاوة سبائكها بالقياس إلى المستوى العالي الذي كانت عليه في السنوات الأولى للخلافة. وقد يُعزى هذا التغيُّر إلى تقلص نفوذ الخليفة، وتردي مستويات الموظفين الموكل إليهم أمر دور السَّك، وتدهور الوضع الاقتصادي للدولة. وقد أرُغِم الخليفة على نقش أسماء الولاة وأولياء العهود وإخوتهم الأقوياء والقادة والوزراء ممن كان لهم عليه سطوة وسلطان، كما أخذ حكام الدويلات التي انفصلت عن الخلافة العباسية وأصبحت شبه مستقلة، مثل الدولة الطولونية في مصر ودولة الصفاريين والساجيين والسامانيين في فارس والإخشيديين في فلسطين، يضربون أسماءهم على العملة العباسية بينما أصبحت سيادة الخليفة بالاسم فقط. وبدراسة هذه الدنانير، يمكن التعرف على الدويلات الجديدة المستقلة عن الخلافة وتتابع تاريخ إنشائها وانتهائها.
العملة الأندلسية :
أبقى العرب في الأندلس إبان الفتح الإسلامي لها على التعامل بالنقود البيزنطية، ذات النقوش والشارات والرموز النصرانية، وذلك عملاً بسياسة التسامح التي اتبعها العرب مع سكان البلاد التي فتحوها، وهذا ما تؤكده مجموعة النقود التي ضربت في عهد موسى بن نصير (ت 97هـ، 715م).
ومع تثبيت أركان الدولة الإسلامية الجديدة في الأندلس، بدأ العرب بضرب دينار جديد عام 98هـ، 717م، يحمل على أحد وجهيه كتابات عربية تشتمل على الشهادة مكتوبة في وسط الدينار ونصها محمد رسول الله، وعلى الإطار نقش كتابي نصه ضُرب هذا الدينار في الأندلس سنة ثمانٍ وتسعين. أما ظهر الدينار فكان يحمل نقشًا لاتينيًا. ويلاحظ من تاريخ الدينار السابق أنه متأخر في تعريبه عن مثيله في المشرق الذي عُرِّب في عام 73هـ، 692م على يد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان. وفي الواقع فإنَّ هذا الأمر ليس فيه غرابة؛ إذ يتفق مع طبيعة التدرج، حيث لم يحبذ الضارب المسلم للسَّكة أن يُفاجأ أهل البلاد بعملة جديدة تمامًا، وإنما سار بالتدرج المعقول، حتى يصل إلى ضرب عملة إسلامية خالصة في فترة قصيرة لم تتجاوز ربع القرن. ومن الجدير بالذكر أن الدينار العربي اللاتيني النقش لم يظهر إلا في الأندلس خاصة، وهذا يرجع إلى معرفة أهل البلاد من الأسبان بالرموز اللاتينية إلى جانب أن لهجتهم كانت مشتقة من اللغة اللاتينية نفسها.
وفي عام (103هـ،720م)، ظهرت أول عُملة ذهبية إسلامية في الأندلس، وقد سُكَّت على طراز الدينار المغربي الذي كان قد ضرب في السنة السابقة بمدينة إفريقية (تونس حاليًا). وكانت النقود الأندلسية الأسبانية المضروبة في الأندلس قبل عام (114هـ، 732م)، تحمل اسم دار الضرب الأندلسي، وهي قطع نادرة الوجود.
ومن الجدير بالذكر أنه لم تصل إلينا أية عُملات من بداية الحكم الأموي في الأندلس؛ وقد يعلل ذلك أن الأمير عبدالرحمن الداخل اكتفى باستعمال العُملات التي كانت متداولة في الأندلس إبان دخوله إليها، ويحتفظ متحف أشمولين بمدينة أكسفورد بقطعة نادرة في شكل دينار مؤرخ بعام 116هـ، 734م من ضَرْب الأندلس. وتأتي أهمية هذا الدينار لكونه يمثل آخر عملة ذهبية أندلسية معروفة، حيث توقف بعدها السك إلى حوالي قرنين من الزمان.
وأول عُملة ذهبية جديدة ظهرت في الأندلس بعد ذلك، كانت في عهد الخليفة عبدالرحمن الثالث عام (317هـ، 929م)، وهو أول من انشق على الخلافة العباسية، وأعلن نفسه خليفة على الأندلس. ومنذ عام 317هـ، 929م وحتى نهاية الحكم الأموي في الأندلس، كانت أسماء وألقاب الحكام تنقش على ظهر العملة إلى جانب اسم دار الضرب وسنتها، وكانت من أهم أماكن الضرب الأندلسية حينذاك مدينة قرطبة وبلنسية وغرناطة وشاطبة ومالقة ومرسية والجزيرة الخضراء وأشبيليا.
وبعد ضعف الخلافة الأموية في الأندلس في حوالي (400هـ، 1010م)، بدأ الحكام الأندلسيون بضرب عملاتهم الخاصة. وكان الكثير منها يضرب على الطراز الأموي إلى درجة أن بعض الأمراء قام بنقش اسم خليفة سابق، قد انتهت مدة خلافته على العملة.
وفي عصر ملوك الطوائف، مثل بني عباد في أشبيليا وبني الأفطس ببطليوس، وبني ذي نون بطليطلة، وبني جهْور بقرطبة، وبني حيُّوس بغرناطة، أخذ هؤلاء بوضع أسمائهم وألقابهم على العملة التي كان معظمها كسور الدنانير. وكان يعيب دنانير تلك الفترة أنها كانت تُضرب بنوع رديء من الذهب، مما يدل على تدهور الحالة الاقتصادية والسياسية حينذاك.
أما فترة حكم المرابطين في الأندلس، فقد شهدت ازدهارًا ملموسًا في سك النقود وكان الدافع إلى ذلك هو التنافس الكبير بين ملوك المسلمين والملوك النصارى، لدرجة أن الملك ألفونس الثامن أمر بضرب عُملات تحمل نقوشًا عربية على غرار طراز عملة أمراء مرسية.
ومن الجدير بالذكر أن دور الضرب الأندلسية قد انتعشت انتعاشًا كبيرًا على يد الأمير علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي، حيث وصلت إلينا عُملات ضُربت في جميع مدن الأندلس منها المرية، غرناطة، قرطبة، أشبيليا، مرسية، مالقة، دانية، شاطبة، نول لمطة وغيرها.
وفي عصر الموحدين تميزت العملة بارتفاع قيمتها وبصفة خاصة الدينار المؤمني والدرهم المؤمني، نسبة إلى الخليفة الموحِّدي عبدالمؤمن بن علي. وأهم ما كان يميز الدينار الموحدي هو شكله المربع الذي أمر بسكه المهدي محمد بن تومرت مؤسس الدولة الموحِّدية، كذلك سك كل من الخليفة يوسف بن عبدالمؤمن وولده الخليفة يعقوب المنصور بالأندلس عملة ثقيلة ضربت في أشبيليا وقرطبة وغرناطة ومالقة والمرية. وبهزيمة الموحدين في معركة العُقاب بالأندلس أمام جيوش الأسبان، تقلص دور المسلمين الدفاعي هناك، مما ساعد على سقوط معظم مدن الأندلس في يد الأسبان، مثل مدينة قرطبة وأشبيليا ومالقة ومرسية، وغيرها. ولم يبق من ديار الإسلام في الأندلس إلا مملكة غرناطة العربية التي كان يحكمها بنو نصر آخر الملوك المسلمين بالأندلس، وتعد عُملاتهم آخر العُملات الإسلامية التي ضُربت في الأندلس. وقد تميزت عُملات بني نصر، بأنها كانت تضرب بعناية، إلى جانب أنها كانت متأثرة بالأسلوب المغربي الثقيل. وقد اشتملت عُملات بني نصر على نقوش عديدة تضمنت آيات من الذِّكر الحكيم، إلى جانب اسم الحاكم دون أن يضرب عليها سنة السك، وأكثر ما يميز العُملة في عهد بني نصر هو شعار: ¸لا غالب إلا الله· أما أهم دور الضرب في عهدهم فكانت مدينة غرناطة باعتبارها آخر معاقل المسلمين في الأندلس.
العُملات الفاطمية :
ضرب الخلفاء الفاطميون الدنانير الذهبية بأسمائهم ونقشوا عليها العبارات الشيعية، كما ابتدع الفاطميون نوعًا من النقود التذكارية الذهبية صغيرة الحجم خفيفة الوزن تسمى خراريب ومفردها خرُّوبة، و تقدر قيمة وزنها بـ 0,194جم. وكان الغرض من ضرب هذه الخراريب هو توزيعها على عامة الشعب في المواسم والأعياد، كما ضرب الفاطميون نوعًا آخر من النقود التذكارية تسمى الغرة، وهي مجموعة من الدنانير والرباعيات والدراهم المدورة تضرب بأمر الخليفة في العشر الأواخر من ذي الحجة.
ومن الجدير بالذكر أن الخلافة الفاطمية إبان ظهورها في بلاد المغرب عام (297هـ، 909م) على أنقاض دولة الأغالبة، قد ضربت نقودها على طراز العملة العباسية إلى جانب اسم الخليفة عبيدالله المهدي أول الخلفاء الفاطميين. وفي عام (358هـ، 669م) أمر الفاطميون بإحداث تغيير جذري في طراز العملة من حيث التصميم؛ فقاموا بنقش كتاباتهم في ثلاث دوائر متحدة المركز، تسير في عكس اتجاه عقارب الساعة بدلاً من الترتيب الأفقي، الذي كانت تنقش عليه كتابات العربية منذ عهد الخليفة عبدالملك بن مروان. وكان الهدف من وراء هذا الطراز الفاطمي الجديد هو التأكيد على حق الفاطميين المطلق في الخلافة.
العُملة الأيوبية والمملوكية :
بسقوط الخلافة الفاطمية في سنة (567هـ، 1171م) وانتقال الحكم إلى الأيوبيين، عمل هؤلاء في بادئ الأمر على إصدار عملتهم الذهبية على طراز العُملة الفاطمية ذات النقوش الدائرية، وذلك على مدى الثلاثين سنة الأولى من حكم الأيوبيين. ولما تولى السلطان العادل في عام (596هـ،1200م)، أعاد إصدار العُملة على غرار العُملة التقليدية أي نقش النصوص الكتابية في سطور أفقية احتلت وجه العُملة وظهرها، كما أدخل السلطان العادل بعض التعديلات على العُملة منها تسجيل اسمي السلطان والخليفة العباسي وألقابهما بالخط الكوفي، بدلاً من الشهادة وسورة الإخلاص في الطراز التقليدي، مع الإبقاء على الأطر الخارجية التي بدأت تنحسر تدريجيًا حتى اختفت تمامًا.
وفي عهد السلطان الكامل (622هـ، 1225م)، استبدل خط النَّسْخ بالكتابات الكوفية التي كانت تنقش على العُملة الأيوبية. وفيما عدا ذلك، لا نعرف تغيرًا آخر طرأ على الدنانير الأيوبية وذلك على كل من السكة الفضية والنحاسية التي تعرضت لكثير من التغيير والتعديل.
أما في العصر المملوكي، فقد حافظ المماليك الذين ورثوا الدولة الأيوبية، التي أخذت تتسع على حساب الهامش الخارجي، حتى أصبحت تملأ وجهي العُملة بالكامل.
ومن أمثلة هذا الطراز العُملة التي ضربها السلطان الناصر محمد بن قلاوون (724هـ، 1323م).
وقد تضمنت نقوش العُملة المملوكية اسم السلطان ولقبه، بالاضافة إلى مكان الضرب وتاريخه وشعار السلطان الذي كان يُنقش أحيانًا في أعلى النص أو أسفله. أما ظهر الدينار المملوكي فكان ينقش عليه عبارة دينية، تتألف عادة من الشهادة وفقرة من آية قرانية.
ومن الملاحظ أن العُملة المملوكية أصبحت تخلو تمامًا من الإشارة إلى اسم الخليفة العباسي، مع أن السلطان الظاهر بيبرس البندقداري كان قد استقدم إلى القاهرة أحد أبناء البيت العباسي، وبايعه بالخلافة في سنة (659هـ، 1261م) أي بعد سقوطها في بغداد بنحو ثلاث سنوات، وخطب له على المنابر، ونقش اسمه على السكة.
وكان زوال عصر الخلافة الإسلامية إيذانًا بظهور دول مستقلة في شرقي العالم الإسلامي وغربيه، حرصت كل منها على سك عملة مستقلة بأسماء سلاطينها أو حكامها، ونقشوا عليها شعاراتهم وعبارات تحوي دلالات دينية وعقائدية مختلفة.
ومع التطور الذي طرأ على كل مظاهر الحياة، فقد اندثرت هذه العملات شيئًا فشيئًا لتحل محلها عملات ورقية، تعد سندًا بقيمة العملة، ثم تطورت هذه العملات الورقية في الشكل والحجم حتى أصبحت بالشكل الذي نعرفه اليوم.
دار الضرب الإسلامي..
هل كان نواة للبنوك المركزية؟
د. توفيق الطيب البشير
البنك المركزي هو مؤسسة مالية تملكها الدولة أو تكون تحت إشرافها المباشر. ويتولى البنك المركزي الإشراف على العمليات النقدية التمويلية العامة للدولة عن طريق إدارة هذه العمليات ورسم السياسات النقدية للدولة، فضلاً عن قيامه بدور القائد لسوق النقد والمشرف على نشاط المصارف التجارية باعتباره أعلى سلطة نقدية في الدولة. ومن ذلك يمكن القول بأن البنك المركزي له وظائف معروفة ومستقرة في معظم دول العالم، على تعدد توجهاتها وفلسفتها الاقتصادية. ويكاد الذين عرّفوا البنك المركزي لا يجدون فرقاً يذكر في المذاهب والأنظمة الاقتصادية من حيث وظائفه وأهدافه العامة .
بنك إنجلترا
ويعود تاريخ البنوك المركزية الحديثة عند كثير من المؤرخين الاقتصاديين إلى بنك إنجلترا الذي يعد نقلة نوعية كبيرة في هذا الفن المصرفي الحديث.
ولقد أنشئ بنك إنجلترا باكتتاب عام سنة 1694م ، لغرض واضح هو تسليف الحكومة مقابل منحه امتياز إصدار الأوراق النقدية بموجب أحكام قانون أقره البرلمان، وقد كان هذا الامتياز خاضعاً لقيود وشروط محددة لأنه كان قابلاً للتجديد بصفة دورية وكان يجدد معه حق إصدار النقد مقابل تقديم قروض إضافية للحكومة.
وبهذا التطور الهام الذي طبع به بنك إنجلترا موقفه العام كمصدر للنقود (مع مؤسسات أخرى) بالإضافة إلى وظيفته الجديدة كبنك للحكومة ووكيلها، استطاع بنك إنجلترا أن يكسب ثقة الكثير من المصارف الخاصة التي بدأت تظهر في القرن الثامن عشر الميلادي، وفي تطور مهم جداً، كان هناك قانون جديد صدر عام 1844م (The Bank Charter Act) أعطى بنك إنجلترا الحق في احتكار الإصدار النقدي في نطاق دائري نصف قطره 3 أميال من مدينة لندن ، ولم يسمح لأي بنك آخر جديد بالقيام بهذه المهمة .
تطور البنوك المركزية
وفي الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر بنوك الاحتياط الفيدرالي إحدى أهم البنوك المركزية التي عرفها العالم في القرن الميلادي الماضي (1913م). ثم توالت البنوك المركزية وواصلت انتشارها في جميع دول العالم تقريباً بعد توصية المؤتمر المالي الدولي الذي عقد في بروكسل سنة 1920م، والتي مفادها أن على كل البلدان التي لم تكن قد عملت على إنشاء بنك مركزي أن تشرع في ذلك بالسرعة الممكنة.
وهناك عدد كبير من البنوك المركزية التي نشأت بين هاتين التجربتين خلال الفترة 1694 المجتمع و 1913م ، ومن هذه البنوك بنك فرنسا (1800م)، والبنك الهولندي (1814 المجتمع )، والبنك النمساوي ( 1817م)، وبنك النرويج (1817م)، والبنك الوطني البلجيكي (1850م)، وبنك إسبانيا (1829م). وكل هذه البنوك تعتبر ذات طبيعة واحدة ونشاط يكاد لا يختلف في شيء .
إصدار النقود
وتعتبر عملية إصدار النقود هي أسبق وظائف البنك المركزي إلى الظهور، بل هي أسبق بكثير من ظهور البنك المركزي نفسه. وبالتالي فإن ربط هذه الوظيفة بالبنك المركزي إنما جاءت لأهمية إحالة هذا العمل الحيوي إلى جهة متخصصة ذات سيادة اقتصادية ، وقد كانت البنوك المركزية حتى أوائل القرن العشرين الميلادي تعرف ببنوك الإصدار.وبالفعل دار جدل كثير في النظام الرأسمالي حول أي وظائف البنك المركزي يمكن أن تكون أكثر التصاقاً به، فاعتبر هاوتري (Hawtrey) أن وظيفة البنك المركزي الأساسية هي اعتباره كمقرض أخير للبنوك ، واعتبرت فيرا سميث (Vera Smith) أن الإصدار النقدي هو أهم وظيفة للبنك المركزي في مراقبة الائتمان.
دار الضرب الإسلامي
ومن هنا تبدو أهمية دار الضرب الإسلامي الذي أنشأه العرب في عصر بني أمية والذي كان يعتبر المكان الشرعي الوحيد لإصدار النقود. وقد جاء في رواية جعفر بن محمد؛ لا يصح ضرب الدراهم إلاَّ في دار الضرب وبإذن السلطان , لأن الناس إن رخص لهم ركبوا العظائم , وقد منع الإمام أحمد من الضرب بغير إذن السلطان لما فيه من الإفتئات عليه.
وضرب الدراهم عملية قديمة عرفت عند الروم وعند الفرس قبل الإسلام، ولكني لم أجد ما يشير إلى وجود دار متخصصة ذات قواعد وأحكام تتعلق بهذه الصناعة قبل دار الضرب الإسلامي، مما يوحي بأنه أول نواة عملية للبنك المركزي الحديث في تقديري. وقد اختلف في أول من ضرب النقود في الإسلام, فقال سعيد بن المسيب إن أول من ضرب الدراهم المنقوشة عبد الملك بن مروان، وكانت الدنانير ترد رومية والدراهم ترد كسروية وحميرية قليلة. قال أبو الزناد؛ فأمر عبد الملك بن مروان الحجاج أن يضرب الدراهم بالعراق فضربها سنة أربع وسبعين للهجرة. وقال المدائني بل ضربها الحجاج في آخر سنة خمس وسبعين للهجرة، ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين للهجرة. وقيل إن الحجاج خلصها تخليصاً لم يستقصه وكتب عليها ( الله أحد الله الصمد)، ثم ولي بعد الحجاج عمر بن هبيرة في أيام يزيد بن عبد الملك فضربها أجود مما كانت ، ثم ولي بعده خالد بن عبد الله القسري فشدد في تجويدها, وضرب بعده يوسف بن عمر فأفرط في التشديد فيها والتجويد فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقد بني أمية. وكان المنصور، رضي الله عنه، لا يأخذ في الخراج من نقدهم غيرها. وحكى يحيى بن النعمان الغفاري عن أبيه أن أول من ضرب الدراهم مصعب بن الزبير عن أمر أخيه عبد الله بن الزبير سنة سبعين للهجرة على ضرب الأكاسرة وعليها بركة في جانب، والله في الجانب الآخر ، ثم غيرها الحجاج بعد سنة وكتب عليها بسم الله في جانب والحجاج في جانب.
والمسلمون هم الذين وضعوا الضوابط الدقيقة للإصدار النقدي ومنعوا الغش فيها، أي ما نطلق عليه الآن بالتزييف والتزوير في العملات، ومنعوا غير السلطان أن يقوم بهذا الدور، الأمر الذي فعلته جميع الدول في العصر الحديث، كما جاء عن الإمام الشافعي أنه قال؛يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة، لأن فيه إفساداً للنقود وإضراراً بذوي الحقوق وغلاء الأسعار, وانقطاع الأجلاب, وغير ذلك من المفاسد . وهذا التعليل الذي أتى به الإمام الشافعي إنما هو في اعتقادي نواة حقيقية لنشوء نظرية الائتمان والسياسة النقدية الحديثة التي تقوم على التحكم الكمي والنوعي في عرض النقود والتحكم في معدلات التضخم، للمحافظة على الاستقرار النسبي للأسعار ومحاولة منع انخفاض القوة الشرائية للنقود، أو ما يعرف بال (Devaluation) .