مؤسس الدولة الأموية
معاوية بن أبي سفيان :
ينتسب معاوية بن أبي سفيان، مؤسس الدولة الأموية التي دان لها المسلمون قرابة تسعين سنة ، إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، وأمه هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف .. وكان أمية من سادة قريش في الجاهلية، وكذلك كان هاشم بن عبد مناف ، لهذا لا نعجب إذا تنافس هذان البطنان على رياسة قريش، وكان أمية كثير المال والعيال ، فكان له عشرة أولاد امتازوا بالشرف والسيادة ومنهم حرب وسفيان وأبو سفيان .. وكان حرب بن أمية قائد قريش يوم الفجار ، كما قاد أبو سفيان قريشاً في حروبها ضد النبي عليه السلام ، وهو صاحب العير القادمة من الشام إلى مكة ، والتي وقعت من أجلها غزوة بدر الكبرى .. وكان قائد الجيش النافر وقتئذ لحماية قريش ، عتبة بن عبد شمس جد معاوية لأمه .. فكان أبوه صاحب العير، وجده صاحب النفير، وبهما يضرب المثل فيقال للخامل : ( لا في العير ولا في النفير) .. وقد ولد معاوية بن أبي سفيان بمكة قبل البعثة بخمس سنين ..
[]إسلامه :
[]أسلم معاوية يوم فتح مكة، هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه هند .. وصل معاوية إلى ثلاث وعشرون سنة، فاتخذه الرسول صلى الله عليه وسلم كاتباً للوحي .. ولما فتحت مكة في السنة الثامنة للهجرة أراد أبو سفيان أن يمنع الأذى والمذلة عن قومه ، وأنهى العباس ذلك إلى الرسول، فأمر منادياً ينادي بمكة : ( من أغمد سيفه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) .. وبذلك سوى الرسول بين بيت أبي سفيان وبيت الله ، وهو شرف عظيم لم ينله أحد مثله، فلا نعجب بعد ذلك إذا أسلم كثير منهم وأخذوا يعملون على نشر الإسلام ومد فتوحاته ..
معاوية في عهد الخلفاء الراشدين :
أبلى بنو أمية بلاءاً حسناً في حروب الردة، وسار بعضهم إلى الشام، فاشتهر أمرهم وعظم ذكرهم، ومنهم يزيد بن أبي سفيان الذي ولاه أبو بكر قيادة الجيوش الأربعة التي أنفذها لفتح الشام .. وقد ولاه عمر دمشق ، كما ولي أخاه معاوية بعض ولايات بلاد الشام .. فلما مات يزيد أضاف عمر إلى معاوية ما كان لأخيه .. ولما تسلم عثمان بن عفان الخلافة ولي معاوية الشام كلها ، ثم استقل بهذه البلاد بعد مقتل عثمان .. وعندما بويع علي بن أبي طالب في المدينة امتنع معاوية عن المبايعة له ، متهماً إياه بالهوادة في أمر عثمان وإيوائه قتلته وعدم القصاص منهم .. وبايعه أهل الشام على المطالبة بدم عثمان ومحاربة علي ، مما أوقع الخلاف والشقاق بين أهل العراق وأهل الشام .. وقصارى القول فإن بيت عبد شمس انتقل من السيادة في الجاهلية إلى السيادة في الإسلام.
صفات معاوية :
كان معاوية داهية من دهاة العرب، ومن أوفرهم حظاً في السياسة .. وكان حسن التدبير لأمور الملك ، يحلم في مواضع الحلم ويشتد في مواضع الشدة .. وكان سخياً مضيافاً لأشراف رعيته .. وقد استطاع أن يجذب إليه الرجال ذوي الآراء المعتدلة في الأحزاب المعارضة ، فاستطاع أن يكبح جماح المسلمين عامة والخوارج خاصة .. وخضع له من أبناء المهاجرين والأنصار من يعتقد أنه أولى بالخلافة.
وصية لإبنه قبيل وفاته : لما مرض معاوية مرض الموت أوصى ابنه يزيد وصية تدل على سداد رأيه وخبرته بالأمور ومعرفته بالرجال فقال له : أنظر إلى أهل الحجاز، منهم أصلك وعزك، فمن أتاك منهم فأكرمه ومن قصر عنك فتعاهده .. وانظر أهل العراق فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله، فإن عزل عامل واحد أهون من سل مائة سيف، لا تدري على من تكون الدوائر .. ثم أنظر أهل الشام فاجعلهم الشعار دون الدثار، فإن رابك عدوك ريب فارمه بهم .. لست أخاف عليك إلا ثلاثة: الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر، فأما الحسين بن علي فأرجو أن يكفيكه الله ، وأما ابن الزبير فإنه خب (داهية) ضب ، فإن ظفرت به فقطعه إرباً إرباً .. وأما ابن عمر فإنه رجل قد وقذه الورع (تركه عليلاً)، فخل بينه وبين آخرته يخل بينك وبين دنياك .. وقد مات معاوية في رجب سنة 60 هـ.
خلفاء بني أمية
خلفاء بني أمية :
جعل معاوية الخلافة وراثية في بيته بعد أن كانت شورى في عهد الخلفاء الراشدين .. فخلفه ابنه يزيد الذي ولاه العهد في حياته، ولم يحكم إلا سنوات قليلة ارتكب في اثنائها أموراً جساماً أهمها وأقساها مقتل الإمام الحسين بن علي، رضوان الله عليه .. ولما مات يزيد اختلف الناس على البيعة، وكان له ولد هو معاوية الثاني كان يرى أن الخلافة ليست حقاً لهم، فمات بعد قليل .. ثم بايع بنو أمية شيخاً من غير بيت معاوية هو مروان بن الحكم وذلك سنة 56 هـ ، وبعد موته انحصرت الخلافة في نسله من بعده.
عبد الملك بن مروان :
تولى عبد الملك الخلافة بعد أبيه، وإليه يرجع فضل تعريب الدواوين بعد أن كانت تكتب بلغات أهلها فالديوان المصري كان يكتب باللغة القبطية ويتولى أعماله جماعة من الأقباط ، والشامي كان يكتب باللغة البيزنطية وأموره بأيدي أناس من نصارى الشام، والعراقي يكتب باللغة الفارسية .. ولا يخفى ما كان لتعريب الدواوين وتسليم مقاليدها إلى المسلمين من أثر عظيم في تثبيت قواعد الدولة الإسلامية ، لأنه جعل اللسان العربي لساناً عاماً في أنحاء الدولة كلها ، وساعد على ذلك أن اللغة العربية لغة القرآن .. ومن أعمال عبد الملك المهمة ضرب النقود الذهبية باللغة العربية ، كما أمر بأن تكون الكتابة على الطراز باللغة العربية ..
الوليد بن عبد الملك :
لما مات عبد الملك بن مروان سنة 68 هـ خلفه ابنه الذي ظل في الخلافة عشر سنين ، وكان عهده عهد فتح وغنى واتسعت في أيامه رقعة الدولة الإسلامية شرقاً وغرباً .. كما خفف أعباء الحياة على جمهور المسلمين بعطفه على الفقراء والمعوزين، واهتمامه بأحوال رعيته، من سنتين، وفي أيامه قام المسلمون بحملة على القسطنطينية.
عمر بن عبد العزيز :
كان عمر بن عبد العزيز من أشهر خلفاء بني أمية وأفضلهم .. تولى الخلافة سنة 99 هـ فكان أقربهم إلى سيرة الخلفاء الراشدين .. ولعله كان كذلك لقرابته من عمر بن الخطاب لأنه ابن حفيدته ، فلما تولى الخلافة جعل جده عمر قدوته في الزهد والعدل .. وكان بنو أمية منذ أن جاهروا بطلب الخلافة فرضوا لعن علي على المنابر ، فرأى عمر أن ذلك لا يوافق روح الإسلام ، فأمر بإبطاله ، فلم تقع أعماله هذا موقعاً حسناً لدى بني أمية ، خاصة أنه قد منعهم من اقتناء الأملاك ، وكان عمر بن الخطاب قد نهاهم عن ذلك فلم يسمعوا ، فلما أعاد عمر بن عبد العزيز هذا الطلب مرة أخرى ، خافوا إذا طال حكمه أن تخرج الخلافة منهم، فعملوا على يزيد بن عبدالملك ..
يزيد بن عبدالملك :
تولى الخلافة بعد عمر ابن عمه سنة 101 هـ ، وكان من أهل اللهو والخمر والغناء ، فشغل عن مصالح المسلمين بجاريتين هما (سلامة) و (حبابة) .. وتسلطت الأخيرة على عقله وقلبه، فأصبحت المملكة طوع إرادتها، تولي من تشاء وتعزل من تشاء .. فلامه أخوة مسلمة وقال له: ( توليت هذا الأمر - الخلافة - بعد عمر بن عبد العزيز وعدله ، فتشاغلت بهذه الجارية عن النظر في الأمور، والوفود ببابك، وأصحاب الظلامات يصيحون، وأنت غافل عنهم ) .. فتركها مدة ثم عاد إليها ، وقيل أن حبابة شرقت بحبة عنب فماتت، ولم يعش بعدها الخليفة إلا خمسة عشر يوماً، ومات فدفن إلى جانبها سنة 105 هـ.
هشام بن عبد الملك :
تولى هشام الخلافة بعد موت أخيه يزيد، وكان غزير العقل ، عفيفاً ، اشتهر بالتدبير وحسن السيادة .. وقد قام بكثير من الإصلاحات ، منها اهتمامه بتعمير الأراضي وتقوية الثغور ، وحفر الترع وإصلاح الجسور ، وتمهيد الطريق إلى مكة .. كما ازدهرت في أيامه الصناعات والحرف ، خاصة صناعة الخز والنسيج .. وكان هشام كلفاً بالخيل فأقام لها الحلبات ، كما عني بعدد الحرب وآلاتها .. ومما يؤخذ على هشام امعانه في الإنتقام من العلويين والتنكيل بهم كلما أمكنته الفرصة .. هذا إلى ما عرف عنه من الغلظة وخشونة الطبع وشدة البخل ..
مروان بن محمد : بعد موت هشام بن عبد الملك سنة 521 هـ تولى الخلافة بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ولم يبق في الخلافة غير سنة وشهرين وأيام، فقد قتل بقرية من قرى الشام سنة 621 هـ .. واشتهر الوليد باللهو والخلاعة والمجون، كما كان شاعراً مجيداً ترك قصائد في الغزل والخمرة .. وقد تولى الخلافة بعده يزيد بن الوليد بن عبدالملك ، ثم أخوه ابراهيم ، فحكما بضعة أشهر .. وفي صفر من سنة 721 هـ بويع مروان بن محمد بالخلافة ، وكان يلقب بالحمار لصبره وعدم راحته في محاربته الخارجين عليه .. وقد اشتهر بالشجاعة والدهاء والمكر، وشغل طول مدة حكمه بإخماد الفتن والثورات دون أن يلتفت إلى خراسان وما كان يجري فيها من بث الدعوة العباسية التي اشتد أمرها وعظم خطرها .. ولم يلبث أن باغتته الرايات السود (شعار العباسيين) من خراسان، ودارت معركة الزاب التي انتهت بالقضاء على الجيش الأموي .. ففر مروان إلى مصر، وهناك أدركه عبدالله بن علي العباسي ثم أخوه صالح بن علي الذي قتله وبذلك انتهت الدولة الأموية بعد مقتل آخر خليفة لها ..
[size=21]أسباب سقوط الدولة الأموية
أسباب السقوط : كانت الدولة الأموية اعرابية، وقد تعصب الأمويون للعرب والعربية ، ونظروا إلى الموالي نظرة احتقار وازدراء .. وهذا ما أيقظ الفتنة بين المسلمين وبعث روح الشعوبية في الاسلام .. وراح الموالي الأعاجم يتحينون الفرص للإيقاع بهم ، فانضموا إلى كل الفتن والثورات .. ولما نشط دعاة العباسيين انضموا إليهم لينالوا حقوقهم المهضومة ، كما وجد فيهم العباسيين خير سند لتحقيق هدفهم .. ومن أسباب سقوط الدولة الأموية وقوع الشقاق بين أبناء البيت المالك .. وقد سئل أحد الأمويين : ما سبب انهيار ملككم؟ فقال: اختلاف فيما بيننا واتفاق المختلفين علينا .. كما أن انصراف الحكام إلى حياة اللهو وابتعادهم عن هموم الملك وانتشار الرشوة، كل ذلك كان من الأسباب العامة التي كانت في أساس نهاية الأمويين في الشرق الإسلامي.
فتوحات الأمويين
فتوحات الأمويين :
وصلت فتوحات المسلمين إلى الصين شرقاً وإلى ما وراء جبال البيرينية غرباً، فبلغ أقصى مداه في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان الذي حكم أوسع رقعة، ومعه ارتسمت حدود الامبراطورية العربية.
الدولة الرومانية الشرقية :
اتجهت أنظار المسلمين نحو الشمال والغرب حيث الدولة الرومانية الشرقية التي كانت تغير على المناطق الخاضعة لسلطان المسلمين .. فرتب معاوية الغزو إليها براً وبحراً ، وجهز أسطولاً بلغ عدده 1700 سفينة وفتح عدة جهات كجزيرة رودس وبعض الجزر اليونانية الأخرى، كما أكثر براً من الصوائف والشواتي - حملات الصيف والشتاء - وفي سنة 84 هـ حاصر القسطنطينية براً وبحراً، ولكنه لم يستطع فتحها لمتانة أسوارها ومنعة موقعها، ولفتك النار الإغريقية بسفن المسلمين.
الحصار الثاني للقسطنطينية :
في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك حاول المسلمون فتح القسطنطينية مرة ثانية ، وشرع في تجهيز الحملة للإستيلاء عليها، ولكنه توفي قبل تحقيق هدفه .. فلما تولى سليمان الخلافة أنفذ الجيوش البرية والأساطيل البحرية لفتح المدينة .. وقد دافع أنستسياس الثاني امبراطور الروم عن عاصمته بكل ما أوتي من قوة ، وأرسل إلى الثغور حملة لتحول دون وصول المؤن والامدادات إلى جند المسلمين .. ثم انضم إلى جيش المسلمين في آسيا الصغرى ليو الأزوري البيزنطي ، وكان يطمع في الملك .. فأخذ المسلمون يستولون على بلاد آسيا الصغرى مدينة تلو أخرى ، حتى عبروا البحر ووصلوا إلى أسوار العاصمة .. وتبعهم أسطول المسلمين من الثغور الشامية والمصرية واشترك في حصار المدينة .. وقد اضطر أهل القسطنطينية، إزاء هذا الخطر الداهم، إلى خلع الأمبراطور أنستسياس وتولية (ليو) الذي استطاع بفضل معاونة الشعب له، من استدراج سفن المسلمين، ففتكت بها النار الاغريقية، ونفذت أقواتهم .. وقد تحمل المسلمون آلام الجوع والمرض حتى فني جلهم، بعد أن دمرت أكثر سفنهم .. وهكذا أخفقت الحملة الثانية كما أخفقت الحملة الأولى.
فتح شمالي أفريقيا :
في سنة 50 هـ أرسل معاوية إلى عقبة بن نافع، وكان يقيم ببرقة، عشرة آلاف جندي، فدخل أفريقيا وتمكن من فتحها، وأسلم على يديه كثير من البربر، وقد عمل العرب على إدخالهم في جيوشهم، إذا تسنى لهم بذلك أن يجتذبوهم إلى الإسلام الذي امتد ووصل إلى بلاد السودان .. وقد كون البربر نواة الجيوش التي أتمت فتح بلاد المغرب تحت أمرة قواد من العرب والبربر .. وقد أصبح عقبة بن نافع والياً على أفريقيا بعد أن كانت تابعة لوالي مصر .. وقد رأى عقبة على أثر انتصاره على البربر، أن يتخذ مدينة يقيم بها عسكر المسلمين وأهلهم وأموالهم ليأمن ثورة أهل البلاد، فقصد موضع القيروان، وأمر ببناء هذه المدينة، كما بنى فيها المسجد الجامع.
فتح بلاد ما وراء النهر :
انتشر الإسلام في خلافة الوليد بن عبد الملك، مما أمكنه من إعادة عهد الفتوح التي تمت في عهد خلفاءه السابقين ، فاتسعت رقعة أملاكه في المشرق والمغرب .. أما فتوحاته في المشرق فكان الفضل فيها لقائده قتيبة بن مسلم الباهلي الذي ولاه الحجاج بن يوسف الثقفي منطقة خراسان سنة 68 هـ. فخرج منها إلى بلخ، فقابله أهلها وعظماؤها وتبعوهم، ثم عبر نهر جيحون وقابل ملك الصغاينان وأهدى إليه كثيراً من الهدايا، وقد سلم إليه الملك بلاده .. وفي سنة 78 هـ غزا قتيبة بيكند، وهي بلدة تقع بين بخارى وجيحون، وأغار على الصغد وقاتل أهلها وهزمهم، ثم عقد معهم صلحاً وولى عليهم والياً من قبله ما لبثوا أن غدروا به وقتلوه .. فرجع إليهم قتيبة وفتح المدينة عنوة، وواصل فتوحاته إلى أن دخل بخارى وألزم أهلها أن يمدوه بقوة إضافية من الجيوش المحلية تتراوح عددها بين عشرة آلاف وعشرين ألف رجل، ساعدته على إكمال فتوحاته.
وفي سنة 93 هـ فتح قتيبة مدن خوارزم صلحاً ، ثم فتح سمرقند بعد قتال شديد .. وبفتح سمرقند وطد قتيبة مركزه في بلاد ما وراء النهر .. ولم يكتف قتيبة بما أحرزه من نصر، بل نراه يقرر مد حدود الدولة العربية إلى أواسط آسيا، فعبر نهر جيحون متوجهاً شطر بخارى وانتصر على الجيوش التي قابلته، ثم قصد فرغانه، وهي إقليم متاخم لبلاد تركستان ومن مدنها جخنده، فلقي هناك مقاومة تذكر، غير أنه أحرز نصراً مبيناً ثم فتح كاشان عاصمة فرغانة .. وفي أثناء إقامته بها جاءه كتاب الوليد بن عبد الملك ويقول فيه : ( قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك واجتهادك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الذي يجب لك ، فأتم مغازيك وانتظر ثواب ربك ) .. عند دخوله سمرقند وجد قتيبة كثيراً من الأصنام، وكان عبادها يعتقدون أن كل من اعتدى عليها مات لساعته، فقام قتيبة بإحراقها ومحا هذه الخرافة من معتقدات القوم بعد أن سيطرت عليهم أحقاباً من السنين.
محاولة فتح بلاد الصين :
لم تكن الصين مجهولة لدى العرب، فالصلات التجارية كانت قائمة بين العرب والصين قديماً ، فكانت حاصلات الشرق التي تتلقاها بلاد الشام وموانئ المتوسط تمر بنسبة كبيرة عن طريق بلاد العرب .. وعندما توفي يزدجرد آخر ملوك آل ساسان في فارس استنجد ابنه فيروز بالصين لتنصره على العرب وتعاونه في استعادة ملكه غير أن امبراطور الصين اكتفى بإرسال مبعوث من قبله ليدافع عن ضية الأمير الهارب.
في سنة 96هـ سار القائد العربي المشهور قتيبة بن مسلم على رأس جيش كثيف إلى حدود الصين .. وبينما هو في طريقه إليها جاءه نبأ وفاة الوليد بن عبد الملك ، فلم يثنه ذلك عن مواصلة الغزو، بل تابع سيره حتى اقترب من الصين .. فأرسل إلى ملكها وفداً برئاسة هبيرة بن المشمرج الكلابي، ودارت بينه وبينهم عدة مراسلات انتهت بأن قدم امبراطور الصين الجزية للعرب .. كما قدم للمبعوث صحافاً من ذهب بها تراب من الصين ليطأها قتيبة ، حتى يبر بحلفه الذي قطعه ، وهو أن لا ينصرف عن الصين حتى يطأ ترابها .. على أن العلاقات بين العرب والصين اكتسبت أهمية عظيمة أبان حكم هشام بن عبد الملك الذي أرسل سفيراً له يدعى سليمان إلى الأمبراطور (هزوان تسنغ).
فتح بلاد السند :
ترجع حملات المسلمين على بلاد الهند إلى عهد بعيد، فقد أرسلوا أولى حملاتهم إليها بعد أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه بخمس عشرة سنة، ومن ثم أخذ سيل العرب يتدفق على هذه البلاد من ناحية الشمال الغربي، واستقر بعض العرب في البلاد التي كانوا يفتحوها، وكونوا بها ممالك كان لها أثر كبير في تقدم الحضارة الإسلامية .. وفي عهد معاوية غزا المهلب بن أبي صفرة بلاد السند سنة 44 هـ، وامتدت فتوح المسلمين في هذه البلاد فشملت البوفان والقيقان والديبل .. ولما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة، عهد الحجاج بن يوسف الثقفي إلى محمد بن قاسم بغزو بلاد الهند، فسار إليها سنة 98 هـ وحاصر ثغر الديبل وفتحه عنوة وبنى به مسجداً، ثم سار إلى بيرون فاستقبله أهلها استقبالاً حسناً وأدخلوه مدينتهم وعقدوا معه صلحاً.
واصل محمد بن القاسم فتوحه في هذه البلاد، حتى بلغ نهر السند، والتقى داهر ملك السند، وكان هو وجنده يقاتلون على ظهور الفيلة، فاقتتلا قتالاً شديداً انتهى بقتل داهر وهزيمة أصحابه .. وبذلك استطاع محمد بن القاسم أن يمد فتوحه في أرجاء بلاد السند كلها. ثم تابع فتوحه حتى وصل الملتان ودخلها، والمولتان أو الملتان مركز مشهور للحجاج من الهنود في جنوب بلاد البنجاب .. وكان فيه صنم يعظمه الهنود، ويقدمون له أموالاً كثيرة كل عام، تنفق على بيت الصنم والمعنكفين عليه ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى ملوك الهند وأمرائها يدعوهم إلى الإسلام، ووعدهم بأن يقرهم على ما بأيديهم، فأسلم كثير منهم وتسموا بأسماء عربية .. وكانت سيرة الخليفة عمر بن عبد العزيز وورعه وتقواه من الدوافع التي حملت هؤلاء الملوك على اعتناق الدين الإسلامي، كما قام عمر بن مسلم الباهلي، عامل الخليفة بغزو بلاد الهند، غير أن المسلمين خرجوا من الهند في عهد هشام بن عبد الملك ولجأوا إلى مدينة بناها ابن عوانة الكلبي وسماها (المحفوظه)، وتقع وراء البحيرة مما يلي الهند.
فتح شمالي أفريقيا :
تقلد موسى بن نصير ولاية أفريقيا من قبل الوليد بن عبد الملك سنة 88 هـ فخرج من مصر على رأس جيش قاصداً أفريقيا (تونس) فلما بلغها ضم إليه جيشاً آخر جعل مقدمته مولاه طارق بن زياد ثم أخذ موسى يقاتل البربر ويبسط نفوذ الأمويين وينشر الإسلام في أرجاء بلاد المغرب، حتى بلغ طنجة فحاصرها حتى سلمت وأسلم أهلها، وقلد طارقاً ولايتها وكان الشقاق بين جوليان حاكم سبتة ولذريق ملك أسبانيا قائماً .. وقد ساعد هذا الخلاف العرب وفتح لهم الباب واسعاً وذلك لهم سبيل غزو الأندلس .. وقد زار جوليان موسى بن نصير وحثه على غزو الأندلس، رغبة منه في التخلص من لذريق، ووصف لموسى بن نصير جمال الأندلس وما جمعت من شتى المنافع، وطيب المزارع، وكثرة الثمار، وغزارة المياه وعذوبتها، مما حمل موسى على التفكير جدياً بغزو الأندلس.
فتح بلاد الأندلس :
استأذن موسى بن نصير الخليفة الوليد بن عبدالملك في فتح بلاد الأندلس، فأذن له على أن يختبر البلاد أولاً بجيش قليل العدد .. فأرسل موسى طريف بن مالك، وكان بربرياً ، في سنة 91 هـ على رأس خمسمائة مقاتل .. فعبر بهم البحر في سفن جوليان، وغزا بعض الثغور الأندلسية الجنوبية بمساعدة جوليان، وعاد محملاً بالغنائم، كما تحقق من ضعف وسائل الدفاع عن الأسبان .. ثم أرسل موسى طارق بن زياد، قائد جيشه، في شهر شعبان سنة 92 هـ (711م) فعبر طارق المضيق مع سبعة آلاف من المسلمين جلهم من البربر وألقت السفن مرساها قبالة الجزيرة الخضراء، عند صخرة الأسد التى حملت اسم طارق إلى اليوم. لما علم الملك لذريق بنزول العرب أرض أسبانيا، جمع جيشاً جراراً لمواجهة المسلمين بينما أخذ طارق بفتح القلاع والمدن، بانتظار أن يصله المدد الذي طلبه من موسى بن نصير، وقد أمده موسى بن نصير بعدة آلاف مقاتل، فبلغ عدد جيشه اثنى عشر ألفاً، وثارت مخاوف المسلمين عندما علموا بدنو جيش لذريق، ولكن طارقاً لم يزدد إلا حماسة واستبسالاً .. ويزعم المؤرخون أنه ألقى فيهم الخطبة المنسوبة إلى طارق، قال: (أيها الناس ، أين المفر، البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، اعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهب ريحكم، وتعودت القلوب من رعبها الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة بمناجزة هذه الطاغية…).
ثم التقى طارق بجيش لذريق على مقربة من نهر وادي (لكة)، أو وادي (بكة), ودارت معركة حاسمة فاصلة تم فيها النصر لجيش المسلمين أما لذريق فقيل أنه فر من المعركة واختفى أثره، وقد وجدت عربته وثيابه الحربية بعد أيام على ضفة نهر الوادي الكبير .. ويقول المؤرخون أن انتصار المسلمين ألقى بإسبانيا كلها في أيدي المسلمين ولم يكن طارق بحاجة إلى الجهد الكبير ليقضي على المقاومة في بعض المدن، فكانت المدن تستسلم والمعاقل تفتح دون مقاومة تذكر .. وكتب طارق إلى موسى بن نصير يخبره بما أحرزه من نصر، وما استولى عليه من غنائم، فأمره موسى بأن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به واستخلف موسى ابنه عبدالله على القيروان، وخرج في سنة 93 هـ في عسكر ضخم إلى الأندلس.
استشار طارق رؤساء جيشه فأشاروا عليه بأن وقف القتال يعرض المسلمين للخطر، ويتيح للعدو فرصة لجمع شمله وتوحيد كلمته فأخذ يزحف على المدن الإسلامية، وقسم جنده ثلاث فرق، فأرسل مغيث بن الحارث على رأس سبعمائة فارس إلى قرطبة، فعبر المسلمون النهر وباغتوا الحرس، واستطاعوا العثور على احدى الثغرات، فتسلقوا الأسوار واستولوا على المدينة . ثم فتح العرب كورة ريه ومدينتها مالقة، ثم كورة ألبيره حيث غرناطة وفي النهاية فتحت مدينة طليطلة .. أما موسى بن نصير فقد دخل الأندلس وفتح مدينة قرمونة الحصينة، ثم مضى إلى اشبيلية وفتحها وامتدت فتوحات موسى إلى برشلونة شرقاً وأربونة في الداخل، وقادش في الجنوب الغربي.
وقصد موسى مدينة طليطلة فاستقبله طارق بحفاوة، ولكن موسى كان غاضباً فانتزع منه المغانم وسجنه، ثم صفح عنه وتابعا الفتح معاً وسبب غضب موسى كون طارق لم يتوقف عن الفتح كما أمره سيده وسار موسى وطارق لفتح شمالي البلاد، وتابعا السير حتى بلغا جبال البرانس (البيرينه)، وتم بذلك فتح أسبانيا، وقد بقيت بعض الأقاليم الجبيلية خارج سلطان العرب، ومنها الأقاليم الشمالية الغربية التي لجأ إليها أشراف القوط وزعماؤهم.
لقصور والفن والعمارة في البناء
القصور :
إذا كان للعرب تراث في فن البناء والهندسه المعمارية فذلك لم يعرف لهم إلا في اليمن ، ولم تبلغ بعد مساعي المنقبين والباحثين درجة كافية لإعطائنا من المعلومات ما نستطيع أن نبني عليه حكما عادلا ونحن نعلم أن فن البناء في جنوب الجزيره لم يرثه أبناء الشمال الذين كان مساكنهم في الغالب بيوت الشعر وهياكلهم الهواء الطلق ومدافنهم رمال البادية أما مع الإسلام فإن الفن العربي تجلى أحسن ما يكون في العمارة الدينية وقد أنشأ المهندسون طريقة البناء فيها بساطة وجلال .. ويمكن القول أن تطور المسجد هو سجل تاريخي لتطور الحضارة الإسلامية وعلاقاتها مع الأمم المختلفة .. وإذا استثنينا المساجد وغيرها من الأبنية الدينية ، فإن الأمويين لم يتركوا في الفن البنائي سوى آثار قليلة منها القصور التي بناها على ضفاف البادية أمراء البيت المالك ، شأنهم في ذلك شأن أمراء غسان من قبلهم فالظاهر أنه لم يسكن دمشق منهم سوى معاوية وعبدالملك ، أما "الخضراء" دار الخلافة للجامع الكبير في دمشق فلا أثر لها اليوم ، كذلك تلاشت أطلال "القبه الخضراء" التي بناها الحجاج في واسط دارا له.
إلا أن تخوم بادية الشام حافلة ببقايا قصور كانت في الأصل حصونا رومانية على الحدود فعمد اليها المهندسون الذين استخدمهم الأمويون فأعادوا عمرانها وابتنوها من جديد على الطراز البيزنطي أو الفارسي ، وبالقرب من عين التمر آثار قصر يعرف باسم "الأخيضر" وهو في الطرف الشرقي من بادية الشام وليس محققاً أن تكون هذه الآثار عائدة إلى آخر العصر الأموي أم أول العهد العباسي.
وهناك آثار أوفر عدداً على ضفاف بادية الشام الجنوبية الغربية فقد بنى هناك يزيد بن عبد الملك أو رمم قصراً يسمى (الموقر) ما تزال منه بعض بقايا إلى اليوم أما ابنه الوليد الثاني الذي كان منصرفاً إلى الصيد وغيره من الملاهي، فقد أقام في قصرين متجاورين هما (قسطل) و (الأزرق) .. وكانا من حصون الرومان في شرق الأردن .. وإلى الوليد بن يزيد يعزي ابتناء قصر آخر في هذه البقعة يعرف باسم (المشتى)، وهو أول قصر في هذه الربوع زاره الأثريون .. ولم يكن بناؤه قد أكمل عند وفاة الخليفة، وقد نقلت واجهة هذا الصرح الفخم إلى متحف القيصر فريجريك في برلين.
قصر عمرة :
من المباني الأموية المشهورة قصر (عمرة) في الجانب الشرقي من نهر الأردن وهو على خط مستقيم من ضفة البحر الميت الشمالية وقد بناه الوليد بن عبد الملك، على الأرجح وما يمتاز به هذا القصر التصاوير الطينية الرائعة، فعلى جدرانه صور ليست شخصيات تاريخية، منها صورة للملك لذريق أو رودريك آخر ملوك أسبانيا من القوط الغربيين، وهو الذي قضى عليه القائد طارق بن زياد في معركة (وادي بكة) بالأندلس وهناك نقش للقيصر البيزنطي وآخر للنجاشي، ونقش لكسرى كما تحوي الجدران أشكالاً رمزية تمثل الفلسفة والتاريخ والشعر، وفي صورة لمشهد صيد نرى أسداً واثباً على حمار وحشي، ومن آثار الفن أيضاً صور تمثل الراقصات والموسيقيين وأهل الطرب أما الزينة فقوامها أوراق النبات متدلية من مزهريات وأشجار النخيل والعنب، وعليها عناقيد الثمر، والغار وطيور البادية، وأكثر الكتابات بالعربية وفيها بضعة أسماء يونانية، وليس في العالم الإسلامي صور محفوظة كهذه الصور.
قصر الحير وخربة المفجر :
كشف في الحقبة الأخيرة عن قصرين لهشام بن عبد الملك، أحدهما (قصر الحير) الغربي، على بعد نحو أربعين كيلومتراً إلى الشرق الشمالي من القريتين على الطريق بينهما وبين تدمر وقد كشف عنه الفرنسي دانيال شلومبرجه، ونقلت بعض بقاياه إلى دمشق حيث نصبت في مدخل المدينة الغربي .. والآخر يعرف بخربة المفجر قرب أريحا، وقد كشف عنه الأثريان هاملتون وبرامكي بين سنتي 5391 و 2491.. وفيه عدا البلاط الملكي جامع وحمام، ويمتاز الحمام عن غيره من الحمامات المعروفة في القصور الأخرى المتخلفة عن البلاط الملكي جامع العهد باتساعه وتمام تجهيزه ويمتاز فوق ذلك بالفسيفساء التي كشف عنها في بعض غرفه، فقد زينت أرض المربع في إحداها بصورة سجادة على غاية ما يكون من الدقة والروعة .. وفي جانب هذه الغرفة نفسها ديوان للجلوس بشكل نصف دائرة تقريباً رصعت مقاعده وأرضه بالفسيفساء .. أما الرسم الذي في الأرض فهو شجرة من الأترج أو البرتقال تحمل الثمر يحيطها ثلاثة غزلان قد سطا أحدها أسد يفترسه .. والظاهر أن فنانين من بيزنطية قد استجلبوا لصنع الرسوم بالفسيفساء، وهي تعتبر من أجمل ما تحدر إلينا من هذا الفن .. ويذهب الأثريون الذين كشفوا عن هذا القصر أن الزلزال الذي حدث سنة 647 هـ قد هدم هذا القصر قبل أن يتم بناء الطابق الأعلى فيه.
مجمل القول أن قصور بني أمية في المشرق لم يبق منها اليوم سوى الخرائب والأطلال فما شهده الشرق من أحداث دامية وغزوات متكررة كان من نتيجته القضاء على معالم ضارية مهمة ولو بقيت تلك القصور قائمة لأعطت صورة واضحة للعالم عن خصائص الفن المعماري في عصر بني أمية ومع ذلك فإن ما تبقى من تلك القصور يعكس ملامح عظمة دولة كان لها امبراطورية تمتد إلى الهند والصين شرقاً وإلى أواسط أوروبا غرباً.
الفن والعمارة :
ظلت الدولة الإسلامية، في أول أمرها، مشغولة بحروبها طيلة عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما .. ثم شغلت بالخلاف بين علي و معاوية ولذلك لم يفكر أحد في اقامة عمائر تضارع بيوت العبادة في بلاد الشام أو فارس وظلت الحال على ذلك ، الى عهد الدولة الأموية ، حيث أقام عبد الملك بن مروان سنة 27هـ (169م ) قبة حول الصخرة ، ورصد لبنائها خراج مصر لسبع سنوات ، وقد بقي من المبالغ المخصصة لبنائها مائة ألف دينار ، فأمر بها عبد الملك جائزة للرجلين المشرفين على البناء، وهما " رجاء بن حيوة الكندي" أحد علماء الإسلام من بيسان، و " يزيد بن سلام" من القدس، ولكنهما رفضا، فأمر عبد الملك بن مروان بأن تسبك ذهباً وتفرغ على القبة والأبواب.
تصميم القبة :
تعد قبة الصخرة من أعظم العمائر الإسلامية في الجمال والفخامة وإبداع الزخرفة، كما تمتاز عنها بوساطة التصميم وتناسق الأجزاء .. وهي تتكون من مبنى حجري مثمن الشكل، قوامه تثمينة خارجية من الحجر، وفي الداخل تثمينة داخلية ثانية من الأعمدة والأكتاف ويتوسط التثمينتين دائرة من الأعمدة والأكتاف أيضاً، تعلوها قبة، وبين التثمينتين الخارجية والداخلية رواق وبين التثنية الداخلية والدائرة المقام عليها القبة رواق آخر .. وقد خصصت هذه الأروقة للصلاة ولمرور الناس حول الصخرة.
أما الصخرة نفسها فهي غير منظمة الشكل، يبلغ طولها من الشمال إلى الجنوب 7,71 م، وعرضها من الشرق إلى الغرب 5,31 م، وأقصى ارتفاع لها عن أرض البناء 5,1 م. وحجر الصخرة مكسو بالرخام الملون على ارتفاع ذراعين، ويحيطها سور خشبي بديع النقش والزخرفة.
وفي آخر الصخرة المرخمة، من الشمال الغربي، حجر صغير على ستة أعمدة صغيرة، قيل أنه أثر قدمي النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وقبالة القدم المشار إليه مرآة من سبعة معادن يسمونها " درقة حمزة"، وهي محمولة على ثلاثة أعمدة جميلة، منها إثنان (زوجان في جسد)، والمحراب الذي يصلى به أمام الصخرة يقع على يمين الداخل من الباب القبلي داخل السور الخشبي السالف الذكر وتجاه المحراب باب مغارة الصخرة الشريفة هناك عقد من الرخام محمول على عمودين ينزل منه إلى باطن المغارة بأربع عشرة درجة.
والمعروف أن الأرض التي فوقها الصخرة وسائر أجزاء المغارة مفروشة بالرخام .. ومن آيات الإعجاز في تصميم بناء قبة الصخرة أنه روعي فيه أن يكون في دائرة دعامات القبة لفت بسيط، حتى لا تحجب الأعمدة الواقفة أمام الرائي الأعمدة الأخرى المقابلة لها في الطرف الآخر .. ولذلك يتسنى لمن يدخل من أي باب من أبوابها، أن يرى كل ما في من أعمدة وأكتاف سواء منها ما كان أمامه تماماً أو ما كان من في الجهة المقابلة وقد كان الجدار الخارجي من جدران البناء مغطى بالفسيفساء، ثم استبدلت بلوحات القيشاني، في عهد السلطان سليمان القانوني، وما تزال قبة الصخرة غنية بزخارف الفسيفساء في كثير من أجزائها الداخلية .. والروابط الخشبية الضخمة التي تربط تيجان الأعمدة بعضها ببعض حليت بصفائح معدنية فيها نقوش بارزة غاية في الدقة والإبداع .. وتحتوي قبة الصخرة على كتابة كوفية يبلغ طولها 42 متراً من الفيسفساء المذهبة، على أرضية زرقاء داكنة، وذلك بأعلى التثمينة الداخلية، وقوام هذه الكتابة آيات قرآنية، كما تضم أيضاً عبارة تشير إلى تاريخ إنشاء البناء، سنة 27 هـ في حكم عبد الملك بن مروان.
أما السبب الذي من أجله أقام عبد الملك بن مروان مسجد قبة الصخرة في الحرم الشريف ، فقد كثرت فيه الروايات، تقول إحدى هذه الروايات أنه عندما ثار عبد الله بن الزبير بالحجاز ضد الأمويين، وأخذ البيعة لنفسه، أذاع عبد الله بن الزبير في الناس أن عبد الملك قصد من بناء القبة والمسجد الأقصى إلى صرف الناس عن حج البيت الحرام إلى المسجد الأقصى والصخرة المقدسة متأسياً في ذلك بأبرهة حين بنى بيت صنعاء ليصرف الناس عن مكة على أنه من العسير القطع بصحة ما نسب إلى ابن الزبير، لأنه مات بعد ذلك بقليل .. وفي رواية أخرى ذكرها اليغقوبي أن عبد الملك منع أهل مصر والشام من الحج، لأن عبد الله بن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة، ولما منع عبدالملك الناس من الخروج إلى مكة ضجوا وقالوا: ( تمنعنا من حج بيت الله الحرام، وهو فرض من الله علينا ) ، فقال : ( هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ) ، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء، تقوم لكم مقام الكعبة .. لذلك بنى عبد الملك على الصخرة قبة، وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس يطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة .. ويبدو أن هذه الرواية من وضع خصوم بني أمية، لأن عبد الملك كان من التابعيين [ولد سنة 62 هـ]، ومن غير المعقول أن يقدم رجل مثله على محاولة تغيير أحد أركان الدين الخمسة، فضلاً عن أنه يعلم أن الحج هو الوقوف بعرفة، لا الطواف حول الكعبة .. والمرجح أن عبد الملك أراد ببناء قبة الصخرة أن يجد فيها المسلمون ممن يخشون على أنفسهم من ثورة الحجاز بعض العوض عن زيارة الكعبة .. ومهما يكن من أمر فإن القبة ظلت بعد ذلك أربعة قرون في يد المسلمين ، محاطة بالإجلال والتعظيم حتى أنه لم يكن يسمح لغير المسلم أن يطأ أرضها.
جدار البراق :
هو حائط كبير مبني من حجارة ضخمة، يبلغ طوله نحو 651 قدماً، وارتفاعه 56 قدماً والمسلمون يقدسونه نظراً لعلاقته الوثيقة بقصة إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى بيت المقدس وربما كان هذا الجدار, كما يعتقد بعض الناس، هو الحائط الخارجي للهيكل الذي رممه هيرودوس سنة 11 ق.م ودمره تيطس سنة 7 .م، وهو يؤلف جزءاً من الجدار الغربي للحرم القدسي.
الرسوم المائية :
في قصر عمره رسوم لمشاهد يد واستحمام، ورقص، ورسوم رمزية لآلهة الشعر والحكمة ، والنصر ومشاهد من التاريخ الإغريقي كما تحوي الرسوم بعض مراحل العمر: الفتوة والرجولة والكهولة، وفيها منظر لقبة السماء وبعض النجوم، فضلاً عن البروج المختلفة، ورسوم طيور وحيوانات، وزخارف نباتية متنوعة وأهم الرسوم في هذا القصر رسمان: الأول يمثل الخليفة على عرشه، وحول رأسه هالة، وفوقه مظلة يحملها عمودان حلزونيان، ويحف به شخصان .. وعلى عقد المظلة كتابة كوفية لحق التلف أكثر أجزائها، ويستنبط من الكلمات الباقية أنها كانت تشتمل على عبارات دعاء.
أما الرسم الثاني فهو صورة مشهورة باسم صورة أعداء الإسلام وقوام هذه الصورة ستة أشخاص ذوي ملابس فاخرة ومرسومين في صفين: ثلاثة في الصف الأول وثلاثة في الصف الثاني وفوق أربعة منهم كتابة بالعربية والإغريقية ما تزال باقية فالأول من اليسار وفي الصف الأمامي فوقه كلمة "قيصر" بالعربية واليونانية، والثاني في الصف الخلفي فوقه كلمة يظن أنها "لوذريق" وهو آخر ملوك القوط في أسبانيا، والثالث في الصف الأمامي فوقه كلمة "كسرى" وهو ملك الفرس، والرابع في الصف الخلفي فوقه كلمة "النجاشي" وهو ملك الحبشة.
المسجد الأقصى :
يقع المسجد الأقصى في الجهة الجنوبية من الحرم الشريف .. شرع في بنائه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك سنة 507 م فجاءت عمارته على طراز المسجد الأموي بدمشق والذي يرجع تاريخ بناءه إلى عهد الخليفة نفسه .. ويقوم المسجد على ثلاثة وخمسين عموداً من الرخام وتسع وأربعين دعامة مربعة الشكل. وكانت أبوابه في العصر العباسي مغلفة بصفائح من الفضة والذهب، ولكن الخليفة أبا جعفر المنصور أمر بنزعها وسكها دنانير تصرف على المسجد، لأنه خشي على بيوت الله من البهرج الزائد .. وفي القرن الحادي عشر للميلاد عبثت أيدي الصليبيين بالحرم الشريف فجعلوا قسماً منه كنيسة، واتخذوا القسم الآخر مسكناً لفرسان الهيكل ومستودعاً لذخائرهم.
أمر صلاح الدين الأيوبي بترميم وتجديد المسجد ، فجدد المحراب وكسى قبته بالفسيفساء ، وأحضر له منبر الحسين ، رضوان الله عليه ، من عسقلان ويعتبر هذا المنبر تحفة فنية رائعة ، فهو مصنوع من خشب الساج الهندي ومطعم بخشب الأبنوس وبالصدف والعاج ، ومزخرف بطريقة الحشوات المجمعة وتوالت أيدي التجديد والترميم على المسجد الأقصى منذ ذلك التاريخ فرممت جوانبه وفرشت أرضه بالطنافس والبسط المصنوعة في أقاليم العالم الإسلامي ، والتي كان ما يزال المسجد يحتفظ بها إلى ما قبل الإعتداء الصهيوني في أغسطس سنة 1969م.
في سنة 1927 طرأ على المسجد خلل ، فهبت الشعوب الإسلامية وأسهمت في جمع مبلغ مائة ألف دينار جدد بها المسجد وفي سنة 1936 تصدعت أروقة المسجد على أثر زلزال ، فقامت وزارة الأوقاف المصرية بتعميره ، كما أعادت هذه الوزارة بناء الجانب الشرقي الذي أحرقه الصهاينة سنة 1969 .
[size=16]قصر مشتى : [b]لعل من أهم وأقدم العمائر المدنية التي ترجع الى عهد الدولة الأموية في بلاد الشام قصر مشتى الذي على بعد عشرين ميلا جنوبي عمان بالأردن .. ويتكون القصر من مساحة كبيرة يحدها سور مربع الشكل ، طول كل ضلع من أضلاعه نحو 144 مترا .. وتتخلل السور أبراج نصف دائرية ، ومدخل القصر الرئيسي يقع في الضلع الجنوبي .. وتنقسم المساحة المحصورة بين جدران هذا السور إلى ثلاثة أقسام ، المتوسط منها أوسعها ، وهو الوحيد الذي تم بناء بعض أجزائه أما الجانبان الآخران فلم يشيد فيهما أي بناء .. ويؤدي مدخل القصر إلى قاعة تفضي بدورها الى بهو، وتحف بالقاعة وبالبهو غرف أخرى ، وخلف البهو فناء كبير .. وإلى الشمال من هذا الفناء يرتفع بناء كنيسة (بازيليك) يتقدمها مدخل ذو ثلاثة عقود ، وتنتهي "البازيليك" بثلاث حنيات ، وهو شكل شائع في تخطيط الكنائس وعلى جانبي البازيليك مجموعة من المباني قوامها فناء مستطيل في وضع عمودي باتجاه "البازيليك" ، وفي كل من جانبي هذا الفناء ساحة في وضع عمودي بالنسبة الى الفناء ، وحول كل ساحة غرفتان مقبيتان.
وجدران القصر الداخلية وأقبيته من الآجر ، وفيه أعمدة من الرخام ، وأما عقوده وأركانه فمن الحجر الجيري.
[إن أعظم مافي القصر المشتى من الناحية الفنية هو الزخارف المحفورة في الحجر الجيري ، في الواجهة الجنوبية التي يقع بها المدخل ، وكان ارتفاع هذه الواجهه ستة أمتار .. وقد أهدى السلطان عبد الحميد سنة 1903 هذه الواجهة إلى القيصر غليوم ، وقد حفظت في متحف القيصر فري