المضافة العربية ... في ذاكرة الأجيال
مصطفى محمد الخليل
الاربعاء 27-12-2006
جاء في قاموس المحيط للفيروز آبادي / ضيافة / بالكسر أي نزلت عليه ضيفاً و المستضيف هو المستغيث . و يقال لها الديوان و هي كلمة فارسية و نقول في اللهجة المحكية / اوضة / و هي كلمة تركية و في حماه يسمونها / المنزول/ و قد عرفها الدكتور عبد السلام العجيلي في أحاديث العشيات لمضيفته البلجيكية
في بروكسل بأنها / النوادي المجانية / .
و لا خلاف على التسميات فهي الآن غرفة كبيرة بابها كبير طولها على الأقل /10/ عشرة أمتار و رأيت البعض منها حتى /14/ اربعة عشر متراً .
المضافة العربية ليست وليدة البارحة و اليوم و لا ترتبط بكرم شخص و لا بمشيخة أحد ، فظروف البيئة الصحراوية و حب العربي للضيافة هي التي أوجدت المضافة ..
كتب الباحث احمد وصفي زكريا في عشائر بلاد الشام :
( لولا عادة قرى الضيف و اكرامه لما طيقت البادية المحرومة من الفنادق و المطاعم و من هنا نشأت هذه العادة عندهم و صارت من الواجبات التي لا مناص لهم منها و المسافر او النزيل يعد معزوزاً مصاناً منذ حلوله بيت مضيفه ) .
إذا فخصلة الكرم المتأصلة في نفس العربي و ظروف البادية و الصحراء هي التي اوجدت المضافة فالمضافة تعطي لصاحبها مكانة اجماعية بارزة .
افادني السيد عناد الحرامي / 77 / عاماً من قرية السويدة في معدان و هو صاحب مضافة انه قبل الاربعينيات من القرن الماضي كانت المضافة عبارة عن ربعة في بيت الشعر ، اما منفصلة او متصلة عن بيت الأسرة ، و عندما يريد احد ما ان / يدق قهوة / أي يصبح صاحب مضافة يستأذن من أهل أو أصحاب اقدم مضافة في المنطقة او من الوجيه فإن اذن له كان له ذلك و إن لم يأذن لا يفعل ذلك ... و سألت السيد شلاش المجحم البشير و هو صاحب مضافة ايضاً عن ذلك و قال لي : لا يمكن لأحد ما أن يمنع احداً من أن يصبح كريماً أو ان يدق قهوة مرة في مضافته أو في بيته و أورد لي ضاحكاً مثالاً معروفاً في الرقة ( ياريت كل طيب من عربنا ) .
و حدثتني السيد محمد الهادي السبتي / 94/ عاماً من قرية النعمان في معدان و هو صاحب مضافة ايضاً بان : الدلال في المضافة (الاوضة) أما خمسة /أو سبعة او تسعة و احياناً تصل الى اكثر من ذلك ، و الدلة مصنوعة من النحاس و قد تكون مطعمة بالفضة اكبرها القمقوم و الثانية مطبخة و الباقي الواحدة منها تدعى مصبات .
و كنا قديماً نشتريها من دير الزور من شخص اسمه مزعل مختوم او مهمور على كل واحدة / قد مزعل /
و افادني السيد محي العبد الثلجي / 71 / عاماً من قرية المشلب ان الدلة الكبيرة و هي القمقوم و الاصغر هي الثنو و البقية منها تدعى مصبات ..
و احياناً يسمون القمقوم ( المفورة ) من التفوير .. و من أدوات القهوة المرة / النجر / و هو جرن القهوة و يكون من الخشب القاسي / البطم - الزيتون / المزخرف بمسامير نحاسية او يكون من النحاس الاصفر و يبلغ طوله احياناً اكثر من نصف متر .. و تدق حبات البن و الهال في النجر و الاداة التي ديق فيها البن اسمها في نجر الخشب / مهباج / و في نجر النحاس اسمها / ايد النجر / يقوم بذلك شخص في اعداد و تحميص القهوة يدعى / القهوجي / و يكون مأجوراً أو يقوم بذلك أخ أو ابن صاحب المضافة و لا يقوم صاحب المضافة بذلك ، حيث يحدث اثناء الدق دقات متتالية مما يحدث ايقاعاً موسيقياً شجياً كما يقل :
سمعنا دق قهوة شمينا ريحة هيل
كانت المضافة قبل الاربيعنيات في القرن العشرين ترحل حيث ترحل العشيرة و تنزل حيث تنزل .. و كانت / ربعة / و الجمع منها رباع تكون منفصلة او متصلة مع أسرة صاحب المضافة .
و أفادني غثيث السميري العكاري / 108 / سنوات من قرية الدفينة في منطقة البشري التابعة لمحافظة دير الزور بان اقدم مضافة رآها هي مضافة مجحم ابن مهيد شيخ عشيرة الفدعان و كانت متنقلة ما بين منطقة / جب العلي / في حلب و منطقة / عين عيسى / شمال مدينة الرقة و كان طولها سبعين متر ، فيها عشر دلال قهوة مرة و يقدم فيها طعام الفطور في حوالي الساعة السابعة صباحاً و كان مكوناً من الزبدة و السمن العربي و القمر الدين و خبز الحنطة .. و في وجبة الغداء يقدم للضيوف اللحم بصنفيه الخبز مع المرق / الثرود / أو مع البرغل و الرز أما طعام العشاء يقدم في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل و ذلك لكي يصل الضيوف المتأخرون أو المنقطعون في فيافي البادية و كان بجانب المضافة ربعة خاصة لتقديم العلف للخيول تصليح الخيل / حذاي اللخيل / كعادة النبلاء الانكليز في القرون الوسطى ..
دور المضافة العربية في الرقة
لم تكن المضافة العربية مكاناً للاجتماع و شرب القهوة المرة فحسب بل كان لها دور بارز في المجتمع الرقي آنذاك :
1- الدور الاجتماعي :
المضافة كانت تلم أبناء العشيرة يناقشون كبرى الامور و اصغرها و تدار جلسات الحوار ببرتكولات خاصة لا يمكن تجاوزها حفاظاًعلى ادب المجلس و في العيد يحضر الناس لحضور و ليمة العيد و نسميها في الرقة قديماً / العيد / و يصب القهوجي القهوة المرة العربية بنظام خاص من اليمين الي اليسار و لكل قاعدة شواذ فأحياناً يصب القهوجي للاكبر قدراً او سناً يرجع من اليمين الى اليسار .
2- الدور القضائي للمضافة :
كانت المضافة تعتبر مجلساً قضائياً ففي المضافة تحل مشاكل الدم و العرض و الثأر و الجنايات يقوم بذلك شخص خبير بمثابة القاضي اسمه / العارفة /.
3- الدور السياسي للمضافة :
برز الدور السياسي للمضافة ايام العثمانيين و الفرنسيين حيث يتصل زعماء العشائر و القبائل فيما بينهم و يعقدون ألوية الاتفاق لصد هجمات المحتل و على ذلك امثلة كثيرة لا تزال محفوظة في صدور العامة المهتمين و افادني السيد حواس الصالح الويو /17/ عاماً من قرية المشلب انه في خريف عام /1946 قام المرحوم مجحم البشير عندما كان عضواً في البرلمان السوري بدعوة اول رئيس سوري بعد الاستقلال و هو المرحوم شكري القوتلي إلى وليمة غداء بمناسبة فرحة الاستقلال ، كان مع الرئيس اعضاء الحكومة و منهم حامد الخوجة و جميل مردم بك ، و كان برفقة الريس طبيبه الخاص الدكتور حسني سبح حينما استقبل فرسان عشيرة العفادلة موكب الرئيس و كانوا اكثر من /600 / خيال حيث اصطفت الخيول البيض و السود و الشقر و الحمر ابتداء من باب بغداد حتى باب مضافة مجحم البشير بترتيب عسكري رائع لا مثيل له و مما يذكر ايضاً امه قدم للرئيس الضيف طعاماً خاصاً بسبب وضعه الصحي .
و كان للمضافة دور هام بالانتحابات آنذاك توضع صناديق الاقتراع في المضافات الكبرى قبل انتشار المدارس في الرقة .
4- الدور الديني و التربوي للمضافة :
للمضافة دور ديني لا يمكن نسيانه فقبل انتشار المساجد كانت تقام صلاة العيد صلاة التراويح و صلاة الجماعة في المضافة دون خطبة و هذا ما يفسر لنا أن اغلب المضافات في الرقة يبنيها أصحابها باتجاه القبلة و المضافة هي المكان الذي يجلس فيه ابناء العشيرة لتحفيظ القرآن الكريم هي المنارة الوحيدة للعلم .
و في بداية القرن العشرين بدأت مدينة الرقة تتشكل من مجموعةمن العوائل العربية التي أتت من العراق و تركيا / الغول / فقام كبار هذه العائلات ببناء العديد من المضافات او الدواوين .
اذاً فالمضافة في الرقة لا تزال واقعاً معاشاً لدى ابناء الرقة لم تمحها بهرجة التمدن و التحضر.