خلف نبوخذ نصر ثلاثة من الملوك الذين لم يتمكنوا من السيطرة على حدود الإمبراطورية الواسعة التي وضع أسسها فكان عهدهم عهد ضعف وإضمحلال إضطربت فيه الأحوال الداخلية وقامت التمردات , وقتل إبن نبوخذ نصر في ثورة داخلية بعد حكم قصير لم يستمر أكثر من سنتين , وربما قتل أيضاً خليفته على العرش البابلي , وهو صهر نبوخذ نصر . وفي عهد لباشي - مردوخ إجتاحت البلاد ثورة داخلية أزيح خلالها الملك البابلي عن العرش ونصب نبونائيد ملكاً على البلاد في عام 556ق.م . وكان نبونائيد آخر الملوك البابليين حيث ظل يحكم البلاد حتى سقوط بابل على أيدي الجيش الأخميني بقيادة كورش عام 539 ويظن إنه كان إبن أحد النبلاء بينما كانت والدته كاهنة الإله سن العليا في حران وكان منذ عهد نبوخذ نصر من الشخصيات البارزة حيث قام بدور الوسيط بين مملكة ليديا والميديين وأشتهر بولعه الكبير بالبحث عن الماضي وتقصي أخباره وإستخراج النصوص القديمة حتى طغت هذه الصفة على شخصيته في كتابات المؤرخين المحدثين . وكان على نبونائيد بعد توليه الحكم أن يواجه الإضطراب الذي حل بالإمبراطورية بعد وفاة نبوخذ نصر وكان الإرتباك والإضطراب الداخلي ينحصر في مشكلتين أساسيتين الأولى الناحية
الإقتصادية والثانية الناحية الدينية . فقد كانت البلاد تمر بأزمة إقتصادية حادة نتجت عن إحتكار المعابد للشؤون الإقتصادية وسيطرتها الكاملة تقريباً عليها وتقلص واردات الحكومة المركزية يقابل ذلك تضخم كبير ومستمر في ميزانية الحكومة التي إستمرت تصرف الأموال الطائلة على المشاريع العمرانية وتغذي الجيوش للقيام بالحملات العسكرية وزاد في الأزمة سيطرة الميديين ومن ثم الأخمينيين على الطرق التجارية الرئيسة التي كانت تدر أرباحاً طائلة على بلاد بابل بينما كان من نتائج إندلاع الثورات والتمردات في سوريا أن إنقطعت الطرق التجارية المؤدية الى ساحل البحر المتوسط فإرتفعت الأسعار إرتفعاً فاحشاً ولا سيما أسعار المواد الغذائية والحاجيات الضرورية الأخرىوإستغلت الطبقة الميسورة هذه الظاهرة كما إستغلتها دون شك الأسر اليهودية عن طريق إقراض الناس القروض بفائدة فاحشة وإضطرتهم الى بيع أملاكهم بل وحتى أولادهم سداداً لديونهم . أما المشكلة الدينية , فقد ظهرت في البلاد تيارات دينية جديدة نتيجة إختلاط البابليين بالأقوام الأخرى ولا سيما اليهود الذين ساهم نبوخذ نصر , وربما تأثرنبونائيد ببعض هذه التيارات فدعى الى عبادة الإله سن , الإله القمر , وصرف
على معابده مبالغ طائلة في محاولة منه لتوحيد الديانة في كافة أرجاء الإمبراطورية ويبدو إن نبونائيد وجد في مدينة حران الواقعة على الطريق التجاري حلاً لكلتا المشكلتين الإقتصادية والدينية , فوجه اليها إهتمامه وعمل على إنتزاعها من القوات الميدية التي كانت تسيطر عليها وإستغل فرصة أنشغال الميديين مع الأخمينيين , فدخل حران بقواته وأراد أن يجعل منها مركزاً جديداً له , سيما وإن مدينة حران ذات أهمية دينية خاصة بإعتبارها مركزاً لعبادة الإله سن وبأعتبارها ذات موقع تجاري هام تلتقي عنده الطرق التجارية القادمة من مصر والجزيرة العربية وبابل . وبدأ نبونائيد بصرف الجهود الكبيرة لإعادة معبد الإله سن وتعميره غير إن إنشغاله في حران قد زاد في الأزمة الإقتصادية وأنتشر التمرد والعصيان هذه المرة في المدن البابلية نفسها وعمت المجاعة في بلاد بابل وزاد إرتفاع الأسعار وضاقت الحياة بلناس وكانت محاولة نبونائيد اليائسة في نقل مركز ثقل الإمبراطورية الى ناحية الغرب , أي الى شمال شبه الجزيرة العربية ليضمن السيطرة على الطرق التجارية القادمة من جنوب الجزيرة العربية . فقاد حملة كبيرة الى شمال غرب الجزيرة العربية تاركاً وصياً على عرش بابل وتوغل في شبه الجزيرة العربية وإتخذ واحة تيماء , بعد أن قضى على ملكها المحلي , قاعدة عسكرية له خلال السنوات العشر التالية واستولى على واحة أدومو ( دومة الجندل ) ثم إندفع جنوباً ليسيطر على مناطق أخرى منها واحة يترييو ( يثرب ) وربما كان اليهود الذين نجدهم في المدينة عند ظهور الإسلام هم من بقايا اليهود الذين جلبهم نبونائيد معه أثناء غزوه لشبه الجزيرة العربية . ومع محاولة نبونائيد هذه , فأن الأزمة الإقتصادية في بلاد بابل إزدادت سوءاً وزاد غياب نبونائيد وقواته المسلحة في الجزيرة العربية لفترة طويلة . وإستغلت الفرصة بلاد عيلام وبدأت الغارات على بلاد بابل . وعند عودة نبونائيد الى بابل تمكن من السيطرة على الموقف وقام ببعض المشاريع العمرانية .
سقوط بابل :
عاد نونائيد الى بابل بعد أن أمضى ما يقرب ن عشر سنوات في واحة تيماء وكان عمره آنذاك حوالي سبعين عاماً . وكانت الأوضاع الداخلية مرتبكة بينما كانت الأحوال الخارجية تتغير بشكل سريع ومفاجئ . ففي إيران كانت الدولة الأخمينية في عهد ملكها كورش تتوسع بسرعة عجيبة فتمكنت من القضاء على مملكة ليديا في عهد ملكها كروسس ( قارون ) كما وصلت الجيوش الأخمينية الى ساحل آسيا الصغرى والمدن الأيونية في غرب آسيا الصغرى ثم توجهت الجيوش الأخمينية الى بلاد آشور وسيطرة على أجزاء من شرقي بلاد آشور . ومع إن بلاد بابل كانت على علاقات طيبة مع الدولة الأخمينية , إلا إن مصالح الأخمينيين إقتضت إعلان الحرب على بلاد بابل , وقد بدأت الحرب بشن حملة دعائية واسعة في بلاد بابل ضد الملك البابلي قادتها الأسر اليهودية الموجودة في البلاد حتى إنها إدعت بأن كورش هو المسيح المنتظر الذي أرسله الرب لتخليص الناس وهكذا مهد كورش لتقدمه وبدأ هجومه على بلاد بابل بأن توغل تدريجياً في الأقاليم الشرقية الى بلاد بابل وواجه الجيش البابلي عند مدينة أوبس سلوقية حيث قتل القائد البابلي وإستمر كورش في تقدمه الى مدينة سبار وتوجه منها الى مدينة بابل ودخلها دون مقاومة تذكر
وذلك في 13تشرين الثاني عام 539ق.م ولا يعرف مصير نبونائيد وربما قتل أثناء ذلك أو إنه , كما تشير بعض الأخبار , عين حاكماً على إحدى الولايات الفارسية في إيران . وقد إتبع كورش سياسة اللين والترضية والتسامح بعد دخوله بابل وقرب الى الإله مردوخ وقدم له الخضوع والطاعة بينما منع قواته من سلب ونهب المدينة ولقب نفسه بألقاب ملوك بلاد بابل فرحب به السكان المحليون . وفي أعياد رأس السنة البابلية , تقدم إبنه قمبيز بالخضوع للآلهة وإستلم الملوكية من الإله مردوخ كي تكون ملوكيته على بابل مستمدة من الآلهة نفسها وليس نتيجة الفتح , أو هكذا أرادوا أن يظن الناس في حكمهم . وكافأ كورش الأسر اليهودية التي عاونته في الفتح وسمح لها بالعودة الى فلسطين وهكذا إنتهت الدولة البابلية الحديثة وإنتهى معها آخر حكم وطني في العراق حتى الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي .