[size=24]الجمهورية العربية السورية جزء من إطار جغرافي وتاريخي أكبر هو بلاد الشام، تمتاز بموقعها على مفترق القارات الثلاث وبيئتها المتنوعة وثرواتها الغنية، مما مكنها أن تلعب دوراً محورياً في نشوء الحضارة الإنسانية وانتشارها منذ أقدم العصور. من هذه البلاد أتت إنجازات حضارية كبرى، على صعيد العمران والاستقرار وابتكار الزراعة وتدجين الحيوانات وعلى صعيد التقانات والحرف والإدارة والتجارة والفنون والمعتقدات ونشوء الدول والكتابة وما إليها. وهذا البحث يتناول المعطيات المتعلقة بتاريخ سورية بحدودها الراهنة، مع التأكيد بأن هذا التاريخ هو جزء لا يتجزأ من تاريخ المنطقة كلها، وإنه شديد التداخل مع تاريخ بلاد الرافدين والأناضول وبقية بلاد الشام والجزيرة العربية ووادي النيل. وقد أظهرت الدراسات التي ابتدأت منذ مطلع القرن الماضي، وتطورت مع مرور الزمن، مستخدمة أحدث التقانات المخبرية والحقلية، إن سورية قد تميزت بوجود إنساني وحضاري قديم جداً، مستمر، غني ومتنوع.
عصور ما قبل التاريخ
تشمل هذه العصور المرحلة المسماة بالحقب الجيولوجي الرابع، الرباعي Quaternary، وهو حقب ظهر فيه الإنسان، تميز بتقلبات مناخية، بين ماطرة حيناً وجافة حيناً آخر، تزامنت مع العصور الجليدية والعصور الدافئة التي حصلت في نصف الكرة الشمالي، وأهم دلائل هذه الدورات المناخية كانت مظاهر جيومورفولوجية، أخذت شواطئ بحرية ومصاطب نهرية قديمة، على سواحل المتوسط وفي وديان الأنهار المهمة، الفرات والعاصي ونهر الكبير الشمالي، واحتوت على معطيات مستحاثية وأثرية غنية عن إنسان عصور ما قبل التاريخ. التي يقسمها الباحثون كما يأتي:
ـ العصر الحجري القديم (الباليوليت Palaeolithic)، يؤرخ بين 1500000-15000 سنة خلت. ويقسم ثلاثة أقسام: العصر الحجري القديم الأدنى (الباليوليت الأدنى) 1500000-150000 سنة خلت، والعصر الحجري القديم الأوسط (الباليوليت الأوسط): 150000-40000سنة خلت، والعصر الحجري القديم الأعلى (الباليوليت الأعلى): 40000-15000 سنة ق.م.
ـ العصر الحجري الوسيط (الميزوليت Mesolithic) 15000-10000سنة ق.م.
ـ العصر الحجري الحديث (النيوليت Neolithic) 10000-5000 سنة ق.م.
ـ العصر الحجري النحاسي (الكالكوليت Chalcolithic) 5000-3000 سنة ق.م.
وصل الإنسان أول مرة إلى سورية منذ العصر الحجري القديم الأدنى، قادماً من إفريقيا، سالكاً طريقين طبيعيين اثنين: سواحل المتوسط والانهدام السوري الإفريقي، بدءاً من جنوبي شرقي إفريقيا مروراً بانهدام البحر الأحمر ثم وادي عربة، وادي الليطانين فـوادي العاصي. كان هذا الإنسان من النوع المسمى الهومو إركتوس Homo-erectus أي الإنسان المنتصب القامة، الذي يحمل صفات بشرية واضحة، وإن كانت لا تزال بدائية، تمثلت في حجم دماغه الصغير 1000سم3 تقريباً)، وعظامه الغليظة وقامته القصيرة. كما دلت على ذلك مكتشفات هياكله الأولى من إفريقيا، حيث ظهر منذ مليوني سنة خلت. وجدت الآثار الأولى لهذا الإنسان في سورية في حوض نهر الكبير الشمالي (موقع ست مرخو)، وفي حوض العاصي، (موقع خطاب)، وهي أدوات حجرية، قواطع وفؤوس بدائية، قُدر عمرها بنحو 1500000 سنة خلت، وهي بذلك أقدم دليل لوجود الإنسان القارة الإفريقية، وتنسب إلى ما يُعرف بالعصر الآشولي القديم Old Acheulean الذي استمر حتى 700000 سنة خلت تقريباً. في المرحلة اللاحقة المنسوبة إلى العصر الآشولي الوسيط Middle Acheulean بين 700000 و400000 سنة خلت، تطور الاستيطان البشري، فأصبحت المواقع أكبر وأكثر عدداً وتنوعاً، وطال الاستيطان، أول مرة، البادية السورية، (موقع الميرة) وحوض الفرات (موقع معدان)، ويبقى اللطامنة في حوض نهر العاصي الموقع الأهم من هذا العصر، وهو يمثل معسكراً مؤقتاً لجماعة من الصيادين وملتقطي الخيرات البرية عرفت، أول مرة، استخدام النار، وبنت الأكواخ البسيطة في العراء. في العصر الآشولي الأعلى Upper Acheulean بين نحو 400000 و250000 سنة خلت، ازداد الوجود الإنساني كثافة وبلغ الآشوليون، صنّاع الفؤوس اليدوية Bifaces، قمة تطورهم؛ فوصلوا إلى كل المناطق الجغرافية في سورية والمشرق القديم، دل عليهم خاصة موقع القرماشي في حوض العاصي، والندوية في منطقة الكوم. كُشف في هذا الموقع الأخير عن العديد من المستويات الأثرية الغنية بالأدوات الحجرية والمعطيات المستحاثية، وأهمها العظم الجداري اليساري OS Parietal لإنسان الهومو إركتوس، وهو أكمل وأهم ما وجد لهذا الإنسان في المشرق القديم.
في المرحلة الانتقالية بين العصر الحجري القديم الأدنى والعصر الحجري القديم الأوسط، بين 250000 و150000 سنة خلت، ظهرت في سورية، إلى جانب الآشوليين، مجموعات بشرية مختلفة تعايشت في الزمان والمكان نفسيهما، وكان لكل منها أدواتها المعينة وحضارتها الخاصة بها؛ منها الهمليون (نسبة إلى بئر الهمل في البادية السورية، حوضة الكوم)، الذين اشتهروا باستخدام النصال والحراب الطويلة، واليبروديون (نسبة إلى موقع يبرود)، الذين اعتمدوا على المقاحف القصيرة والسميكة، في حين تابع الآشوليون صناعة الفؤوس الحجرية التي لم تعد بالجودة ذاتها ولا بكثافة العصر السابق.
في العصر الحجري القديم الأوسط، منذ 150000 سنة خلت تقريباً، فقد اختفى الهومو أركتوس واختفت معه الحضارة الآشولية، وحل مكانه إنسان النياندرتال Neanderthal صانع الحضارة الموستيرية Mousterian، كان النياندرتال، الذي يُعتقد أنه من أصل أوروبي، أكثر تطوراً، فيزيولوجياً وحضارياً ، من سلفه الهومو أركتوس. حجم دماغه أكبر (1200سم3 تقريباً)، وقامته أطول وعظامه أقل غلاظة، كما أن حضارته أغنى، وهناك ما يشير إلى ممارسته شعائر روحية وأعمال فنية بسيطة، إضافة إلى استخدام القار في تثبيت قبضات الأدوات وإتقان الصيد بالحراب، كما دلت على ذلك مغاور يبرود، شمال دمشق، وجرف العجلة وأم التلال، في منطقة الكوم. في مغارة الديدرية في وادي عفرين كُشف عن هياكل عظمية لأطفال نياندرتاليين، دُفنوا وفق شعائر واضحة، هي الأقدم والأكمل من نوعها في العالم حتى اليوم.
في العصر الحجري القديم الأعلى، منذ 40000 سنة خلت تقريباً، دخلت سورية مرحلة جديدة، فقد اختفى إنسان النياندرتال وانتهت الحضارة الموستيرية، لأسباب ما زالت مجهولة وحل مكانه الإنسان العاقل Homo sapiens ذو الأصل الإفريقي. لقد حققت مناطق عديدة في العالم، وخاصة غربي أوروبا، نقلة حضارية كبيرة على كل صعيد، إلا أن منطقة الشرق الأوسط، بما فيها سورية، بقيت فقيرة نسبياً، إذ غابت الفنون والشعائر والأدوات العظمية والبناء، وظهرت في هذا العصر حضارات محلية أخذت أسماءها من مواقعها المكتشفة الأولى مثل الأحمرية والعتليتية نسبة إلى مواقع عرق الأحمر وعتليت في فلسطين، والأنطلياسية، نسبة إلى موقع أنطلياس في لبنان، إضافة إلى الحضارة الأورينياسية Aurignacian ذات الأصل الأوروبي على ما يُعتقد.
في العصر الحجري الوسيط، (الميزوليت) منذ نحو 15000 سنة ق.م، استعادت هذه المنطقة حيويتها وازدهرت فيها حضارات محلية مهمة، مثل الكبارية، نسبة إلى مغارة الكبارا، والنطوفية نسبة إلى وادي النطوف في فلسطين. مارست هذه الحضارات، أول مرة، الفنون والبناء واستخدام الأدوات العظمية والأدوات الميكروليتية الهندسية وما إلى ذلك من الإنجازات التي تطورت على امتداد العصور اللاحقة. تعد مواقع المريبط وأبو هريرة، في الفرات، والباز، في القلمون والطيبة، في حوران، النموذج الأفضل لهذا العصر، عصر قرى الصيادين الأوائل، الذي مهد لنقلة كبرى في العصر اللاحق.
في العصر الحجري الحديث، النيوليت، منذ 10000 سنة ق.م تقريباً، دخلت سورية والمنطقة في مرحلة تغير جذري، اقتصادي واجتماعي، وتحولت الجماعات البشرية من الاعتماد على نمط حياة التنقل والصيد والالتقاط للحيوانات والنباتات والثمار البرية إلى البناء والاستقرار وممارسة الزراعة، كالقمح والشعير والذرة، وتدجين الحيوانات، كالغنم والماعز والبقر، مؤسسة بذلك قرى المزارعين الأوائل التي ميزت عصر «الثورة الزراعية» أو ثورة إنسان العصر الحجري الحديث Neolithic Revolution التي رافقتها تحولات اجتماعية كبرى، وسادت فيها معتقدات جديدة، منها عقيدة «الربة الأم» و«الثور المقدس» و«عبادة الأجداد»، التي مورست على امتداد منطقة المشرق العربي القديم، من حوض الفرات شمالاً، مروراً بحوضة دمشق وحتى وادي الأردن جنوباً. لقد ظهرت مكتشفات المرحلة الأولى من هذا العصر، السابقة لمعرفة الفخار، من عشرات المواقع المنقبة مثل المريبط وأبو هريرة وبقرص في حوض الفرات وتل أسود وتل الرماد في حوضة دمشق، إضافة إلى مكتشفات حديثة من تل قرامل في منطقة حلب وجعدة المغارة وتل حالولة وجرف الأحمر في حوض الفرات، إذ أعطى الموقع الأخير مكتشفات استثنائية وغير معهودة، منها بيوت العبادة والاجتماعات الكبيرة واللوحات الحجرية الصغيرة التي حملت إشارات رمزية وأشكال طيور وحيوانات، يُعتقد أنها نوع من الكتابات التصويرية الباكرة التي سبقت ظهور الكتابات التصويرية في بلاد الرافدين بنحو خمسة آلاف سنة. في المرحلة الثانية من العصر الحجري الحديث، المرحلة التي اقترنت باستخدام الفخار، تجذَّرت المجتمعات الزراعية، وظهرت قرى جديدة وازدادت كثافة الاستيطان البشري وأصبحت الأواني الفخارية من العلامات المميزة للحضارة والزمن، كما دلت على ذلك مواقع تل صبي أبيض في حوض البليخ ورأس شمرا على الساحل وتل الكرخ قرب إدلب وغيرها.
وفي نهاية الألف السادس ق.م تقريباً. دخلت منطقة المشرق القديم في العصر الحجري النحاسي، الكالكوليت، إذ استخدمت بعض المجتمعات النحاس إلى جانب الحجر في تصنيع أدواتها. لقد بدأت الشخصية الحضارية لمجتمعات هذا العصر بالبروز أكثر من أي وقت مضى، جسدت ذلك الحضارة الحلفية، نسبة إلى موقع تل حلف في أعالي الخابور في سورية، والتي غطت، في النصف الأول من هذا العصر، المنطقة الممتدة من الموصل شرقاً حتى سواحل المتوسط غرباً. وقد أحدث الحلفيون تطوراً شاملاً في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، لكن أهم ما يميزهم هو الفخار الملون الرائع الذي يحمل زخارف هندسية وطبيعية وإنسانية وحيوانية جميلة، صُنِّع في ورشات متخصصة صدرته إلى مختلف الأرجاء، وكان من أوائل المواد التجارية إلى جانب الأوبسيديان (السبج) الذي انتقل من مقالعه الرئيسة في الأناضول إلى مسافات بعيدة. عُرف عن الحلفيين معابدهم ذات النمط الخاص، بيوت دائرية لها مداخل مستطيلة tholos، وتماثيل «الربة الأم» التي ظهرت عارية عريضة الأرداف تحمل نهديها بيديها وتلفها خطوط ملونة، رمزاً لعقيدة الخصوبة التي استمرت زمناً طويلاً في حضارات الشرق القديم. نحو منتصف الألف الخامس ق.م تراجعت الحضارة الحلفية، بسبب كوارث أو غيرها، وحلت مكانها الحضارة العبيدية، نسبة إلى موقع تل العبيد في جنوبي العراق. كان العبيديون أوسع انتشاراً من سابقيهم فهبطوا جنوباً حتى شواطئ الخليج العربي ومثلوا بذلك أوسع وأول وحدة حضارية عرفها المشرق القديم، امتاز هؤلاء بتطور عمراني لا سابق له، فكانوا أول من شيّد المعابد التي بلغت شأناً مهماً فيما بعد، كما تطورت لديهم الفنون ومنها التماثيل الكبيرة. مع أن الأواني الفخارية العبيدية لم تكن بدقة سابقتها الحلفية وجمالها، إلا أنها غدت أكثر غزارة وتنوعاً، استُخدم في تصنيعها الدولاب البطيء، أول مرة، بعد أن كانت تُصنَّع يدوياً في العصر السابق وشهد عصر العبيد نشاطاً قوياً في المجالات الزراعية والتجارية وغيرها، وتعد مواقع شاغار بازار وتل حلف وتل صبي أبيض وتل منبطح وشمس الدين طنيرة وتل عقاب، في الجزيرة، ورأس شمرا، على الساحل، من أهم المواقع السورية المنسوبة للحضارتين الحلفية والعبيدية اللتين كثيراً ما تتطوران وتتداخلان في المواقع نفسها. في النصف الثاني للألف الرابع ق.م دخلت سورية الشوط الأخير من عصور ما قبل التاريخ، فقد انطلقت من جنوبي بلاد الرافدين حضارة الوركاء، التي استوطنت أيضاً مناطق عديدة في حوض الفرات السوري، وحصل تطور شامل في نمط البناء فظهرت المدن المحصنة ذات الأسوار والأبراج القوية، والشوارع الرئيسة والفرعية والباحات العامة والمشاغل والمعابد والأقنية؛ إضافة إلى تطور في أنماط الفخار والفنون والأختام الأسطوانية والأدوات الفنية والزراعية وغيرها. لكن الابتكار الأهم في هذا العصر كان لوحات الكتابة التصويرية Piclographs المعروفة قبلاً، من موقع الوركاء في العراق، ثم وجدت في مواقع حبوبة الكبيرة وتل قناص وجبل عرودة وتل براك، في الجزيرة السورية، وهي المواقع التي جسدت عصر نشوء العمران وفجر التاريخ في الجزء الشمالي من سورية، وسادت في جزئها الجنوبي الحضارة الغسولية، نسبة إلى تليلات الغسول شمال شرق البحر الميت، التي حققت تقدماً عمرانياً وفنياً ملحوظاً، وإن كان أقل أهمية مما تحقق في المشرق الشمالي.
العصور التاريخية القديمة
في بداية الألف الثالث ق.م. ظهر السومريون أكبرَ قوةٍ حضارية في المنطقة، وبدأت مجتمعات الشرق القديم باستخدام البرونز في تصنيع أدواتها وأسلحتها، وبذلك دخلت المنطقة في العصر البرونزي، أو عصر السلالات الباكرة. في القسم الأول من هذا العصر، البرونز القديم، المؤرخ بين 3000 و2000 سنة ق.م. تابعت مدن عصر الوركاء تطورها، ونشأت أولى دويلات المدن City-States في مختلف مناطق سورية وبلاد الرافدين. تستقي المعلومات عن هذه المرحلة لا من المكتشفات الأثرية فقط، وإنما من الوثائق الكتابية وسجلات المؤرخين القدماء، التي تحتوي أسماء المدن والممالك والملوك والأسر الحاكمة والآلهة، إضافة إلى معلومات اجتماعية واقتصادية تدل كلها على تبلور سلطة دينية-مدنية تقود هذه المدن وتشرف على أمورها. كانت دويلات المدن الأولى في سورية شديدة الصلة بمثيلاتها في بلاد الرافدين، وتعد مدينة تل الخويرة، التي لا يُعرف اسمها القديم، وماري ، في سورية، إلى جانب أور وكيش في العراق، الدليل على المستوى الحضاري الرفيع الذي توصلت إليه المنطقة، ودلت عليه المنشآت العمرانية من أسوار وقصور ومعابد وحرف وفنون تنسب إلى السومريين، الذي يُعرفون اليوم، بناء على أحدث المعطيات الأثرية، أنهم سكان البلاد الأصليين وليسوا مهاجرين قادمين من الخارج، كما ظُنَّ قبلاً، ولهم يعود الفضل في ابتكار الكتابة المسمارية التي تطورت من الكتابة التصويرية إلى المقطعية فالأبجدية التي كُتبت بها كل لغات الشرق القديم، مع أن هذه الكتابة مازالت نادرة، في هذا العصر، واقتصرت على بعض النقوش على التماثيل، المخصصة للآلهة والحكام، التي أتت من ماري وتل الخويرة ومواقع رافدية أخرى.
في منتصف الألف الثالث ق.م تقريباً، بدأ الأكاديون إلى جانب السومريين، يلعبون دوراً متصاعداً في أهميته حتى بلغوا ذروة مجدهم في عهد سارغون الأكادي الأول الذي أسس نحو منتصف القرن الرابع والعشرين ق.م. أول إمبراطورية امتدت من الخليج العربي جنوباً حتى سواحل المتوسط والأناضول شمالاً، كانت سورية جزءاً من القوة السياسية والحضارية للعصر الأكادي، وظهرت فيها ممالك قوية ربطتها بالأكاديين علاقات تعاون أو تحارب حسب الظروف، ويعد موقع تل براك في الجزيرة، حيث كُشف عن قصر أكادي، الدليل الأهم على هذه العلاقات، ومملكة إبلا، تل مرديخ جنوب حلب، هي المثال الأفضل لحضارة سورية ذات شخصية مستقلة وأصيلة، دلت عليها عمارتها وفنونها إضافة إلى الأرشيف، الذي وُجد في القصر الملكي الكبير (القصر G) وتجاوز الستة عشر ألف رقيم، احتوت معلومات سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية وأدبية، لا تنضب عن هذه المرحلة بحكامها وآلهتها ومعاجمها وأساطيرها وغيرها، كُتبت كلها بلغة إبلائية، قريبة جداً من الأكادية والكنعانية، وهي أقدم لغة معروفة من سورية حتى اليوم. لقد امتد نفوذ إبلا، في عهد حكامها الأقوياء، مثل أجريش حلام وأبريوم وآركب دامو، إلى مناطق واسعة بين الفرات والمتوسط، وكانت ذات علاقات دولية بعيدة من بلاد الرافدين شرقاً حتى مصر غرباً، كما سطع في هذا العصر نجم مملكة ماري، إحدى أهم الممالك الباكرة في الشرق القديم التي أتت منها مكتشفات فريدة، أثرية وكتابية، والتي قاربت إبلا في الكثير من سماتها ودخلت معها في علاقات تباينت بين السلم والحرب، قبل أن تخضع لإبلا، ثم تنتهي هاتان المملكتان السوريتان وتُدمرا على يد الأكاديين؛ إذ تباهى سارغون الأول ثم حفيده نارام سين، بأنهما كانا أول من قضى على إبلا، نحو منتصف القرن الثالث والعشرين ق.م، وتعد مدينة نبادا، في الجزيرة السورية، من المدن المهمة في هذا العصر؛ فإضافة إلى قصورها ومعابدها عُثر فيها على أرشيف كتابي صغير معاصر لأرشيف إبلا، تضمن معلومات إدارية واقتصادية تدل على أن هذه المدينة كانت تابعة لمملكة ناغار التي يُعتقد بأنها كانت تضاهي ماري في أهميتها. وهناك مكتشفات أثرية تدل على وجود ممالك ومدن، أخرى في موقع تل البيعة، توتول، الذي كُشف فيه عن قبور وقصور ملكية غنية وتل السويحات في حوض الفرات وغيره. أما تل موزان، في أعالي الخابور، فقد تبين أنه يتضمن آثار مدينة أوركيش القديمة عاصمة الحوريين. الذين استوطنوا الجزيرة العليا منذ منتصف الألف الثالث ق.م، وكان لهم دور متميز على امتداد الألفين الثالث والثاني ق.م.
في منتصف القرن الثاني والعشرين ق.م قريباً، انهارت الإمبراطورية الأكادية تحت ضربات الجويين، انطلاقاً من موطنهم في جبال زاغروس في إيران، وأتى عهد جديداً أطلق عليه عصر الإحساء السومري Neo-Sumerian، تراجعت فيه الممالك السورية عن دورها السابق (ربما عدا ماري وناغا) وتركز الثقل الحضاري في مملكة لجش وعاصمتها الدينية جرسو في جنوبي بلاد الرافدين، ومع حلول عصر البرونز الوسيط بين 2000 و1600 سنة ق.م، حصل تحول جذري جديد على الساحة السياسية والحضارية للمنطقة فقد غاب الحضور السياسي للسومريين والأكاديين وبرز نجم البابليين، الذين عاصروا الآشورين والعمورين في بلاد الرافدين، والذي تذكرهم الوثائق الأكادية منذ نهاية الألف الثالث ق.م. لقد أقام هؤلاء البابليون ممالكهم الصغيرة الأولى في بداية الألف الثاني ق.م. في بلاد الرافدين مثل مملكة إيسن (إيشان البحريات) ومملكة لارسا قبل أن يشيدوا صرح الإمبراطورية وعاصمتها بابل، وفي عهد الملك الكبير حمورابي في القرن الثامن عشر ق.م، امتد نفوذ الإمبراطورية البابلية على كامل مساحة المشرق القديم، وعاصرتها في سورية الممالك العمورية، في حين أقام الكنعانيون ممالك على السواحل الشرقية للمتوسط.
تعد ماري، في عهد ملكها زمري-ليم، إحدى أهم ممالك هذا العصر، كما دل قصرها الفريد ومعابدها وقبورها، وخاصة أرشيفها الضخم الذي تجاوز العشرين ألف رقيم، وكان مصدر معلومات ثرية جداً عن المنطقة وتاريخها، كما لمع نجم ممالك قوية ومزدهرة أهمها مملكة يمحاض، حلب، وملكها ياريم-ليم. وهناك ممالك إبلا (تل مرديخ) وقطْنة وألالاخ وقادش ، إضافة إلى توتول على الفرات وشخنة، ثم شوبات أنليل عاصمة شمسي حدد الأول الذي بسط نفوذه على ماري، ونصَّب ابنه يسمع حدد ملكاً عليها، قبل أن يدمرها حمورابي في منتصف القرن الثامن عشر ق.م تقريباً، لينتقل مركز الحياة إلى مملكة ترقا المجاورة، وهذا عصر تميز أيضاً بدخول الهكسوس، ذوي الأصل العموي على الأرجح، وحكمهم لمصر من عاصمتهم أفاريس (تل الضبعة في مصر العليا)، في عهد الأسرة الخامسة عشرة، قبل طردهم منها وما رافقه من اضطرابات في القرن السادس عشر ق.م، إذ ينسب بعضهم تدمير العديد من المدن الفلسطينية، في نهاية عصر البرونز الوسيط، للمصريين في أثناء مطاردتهم الهكسوس، ولكن يصعب إثبات ذلك تماماً. من جهة أخرى نهاية مأساوية للإمبراطورية البابلية ولممالك عصر البرونز الوسيط التي خضعت لها، وتحالفت معها، إذ بدأ يلمع نجم الحثيين، الهندو أوروبيين، الذين عاشوا في الأناضول منذ النصف الثاني للألف الثالث ق.م. ثم أسسوا مملكة قوية في النصف الأول للألف الثاني ق.م. ومن عاصمتهم حاتوشا (بوغازكوي) في مطلع القرن السادس عشر ق.م، بزعامة ملكهم مورشيلي الأول إلى الجنوب والغرب محطمين كركميش وحلب وإبلا وغيرها ومدمرين بابل، عاصمة حمورابي، التي وقعت، لزمنٍ طويل، بين أيدي الكاشيين، القادمين من إيران قبل أن يسقط هؤلاء أنفسهم على يد العيلاميين في منتصف القرن الثاني عشر ق.م تقريباً. في عصر البرونز الحديث 1600-1200ق.م، وبعد اختفاء الممالك العمورية بدأت تظهر على الساحة قوى جديدة مثلَّها الكنعانيون في بلاد الشام والآشوريون في بلاد الرافدين والحوريون- الميتانيون في الجزيرة السورية العليا: الذين أصبحوا، بعاصمتهم واشوكاني، ربما تل الفخيرية أو تل الحيمدية في الجزيرة، إحدى أهم القوى الفاعلة في المنطقة. وهناك الحثيون في الأناضول، والمصريون في وادي النيل. وقد خاضت هذه القوى الكبرى حروباً طاحنة على النفوذ والخيرات، وكانت السيطرة على سورية أحد أهم دوافع هذه الحروب، التي قادتها المملكة الحديثة في مصر خاصة، والتي يُعرف منها معركة مجدو (تل المتسلم) في فلسطين التي احتلها تحوتمس الثالث في القرن الخامس عشر ق.م، ومعركة قادش في بداية القرن الثالث عشر ق.م. في عهد الفرعون رمسيس الثاني، والتي انتهت باقتسام النفوذ بين الحثيين في شمالي سورية والمصريين في جنوبيها.
استطاعت الممالك الكنعانية، وعلى رأسها أوغاريت، على الرغم من تواضع قدراتها العسكرية، الحفاظ على دور حضاري متواصل واستقلالية نسبة، وقد بلغت أوغاريت أوجاً عظيماً دل عليه تنظيمها العمراني وقصورها ومعابدها وقبورها وتماثيلها وصناعاتها النفيسة وآثارها العاجية والزجاجية وأدواتها وفخارها، الأهم من ذلك كله أرشيفها الكتابي الذي تجاوز الستة آلاف رقيم وتضمن معلومات تاريخية وأدبية ودينية كانت الأساس الذي نهضت عليه الديانات اللاحقة، ومجمع آلهتها المكون من إيل وبعل وحدد ودجن وعشتار وغيرها من الآلهة التي تتابعت على عبادتها شعوب الشرق القديم، وإن اختلفت أسماؤها من عصر لآخر.
مثلت أوغاريت نموذجاً فريداً لتأثيرات وتفاعلات رافدية وأناضولية ومصرية ويونانية، أعيد تبلورها في إطار سوري أصيل، بلغ قمته بابتكارها الأبجدية الأولى في التاريخ التي حملها رقيم صغير، وتألفت من ثلاثين حرفاً تُكتب بالخص المسماري، من اليسار إلى اليمين، ثم أصبحت في جبيل اثنين وعشرين حرفاً تُكتب من اليمين إلى اليسار، قبل أن يأخذها اليونان وتغدو أصل الأبجديات الراهنة في العالم.
إلى جانب أوغاريت ازدهرت في سورية مدن أخرى من بينها ألالاخ ، في منطقة العمق، وأيكالتة في الفرات. وهناك دور كاتليمو على الخابور، التي حملت تأثيرات مجارة، محورية وحثية وآشورية، كما دلت على ذلك قلعتها وأرشيفها الكتابي. والقول نفسه ينطبق على إيمار على الفرات وغيرها من المدن التي عاشت على امتداد النصف الثاني للألف الثاني ق.م.
في نهاية عصر البرونز الحديث حلت بالمشرق القديم، من جديد، كارثة كبرى، حين اجتاحت المنطقة شعوب غير معروفة أُطلق عليهم تسمية شعوب البحر، قادمة من مناطق مختلفة في حوض المتوسط والأناضول، ومنهم الفلستيون Philistines الذين أعطوا اسمهم لفلسطين. وقد أسقطت شعوب البحر، ذات التسليح القوي والقدرات القتالية العالية، الإمبراطورية الحثية وجميع الممالك الكنعانية على ساحل المتوسط، وهددت مصر محدثةً فوضى واضطراباً شاملين. لقد دُمرت أوغاريت كما هُجرت ممالك أخرى مثل ألالاخ وغابت الحياة عن العديد من المدن مثل تل براك وحماة لأسباب قد لا ترتبط مباشرة بشعوب البحر، وقد تكون بسبب أزمات اقتصادية واجتماعية متفاقمة. هكذا بدأ عصر الحديد الذي استمر بين 1200 و539ق.م، وهو عصر بروز الآراميين كإحدى القوى الفاعلة في تاريخ المنطقة لبضعة قرونٍ مقبلة. أعطت التنقيبات الأثرية والمصادر الكتابية، الحوليات الآشورية والتوراة، معلومات وفيرة عن الآراميين الذين أنشؤوا العديد من الممالك الصغيرة التي حملت أسماء قبائلهم، بينها بيت باخياني وعاصمتها جوزان عند منابع الخابور، وبيت عديني وعاصمتها تل بارسيب وحداتو في الجزيرة السورية، وبيت أغوشي وعاصمتها أرياد في منطقة حلب، وهناك ممالك أرام صوبا وحماة ودمشق وغيرها. اشتهر الآراميون بنمط حضاري خاص ميزته العمارة ومنها المعابد والقصور بمداخلها ذات الأعمدة وهناك منحوتاتهم الحجرية الضخمة وآثار عاجية ومعدنية وكتابات جسدت موضوعات شتى وذكرت حكامهم وآلهتهم وعلى رأسها حدد وبعل وبعل شمسين وغيل ونبو وعشتار، التي كانت امتداداً لآلهة أسلافهم العموريين-الكنعانيين. إلى جانب الآراميين خضع شمالي سورية لتأثيرات لوقية-حثية جديدة Luvian Neohitites، مثل كركميش وسمال ، في حين نشأت على السواحل الممالك الكنعانية والفينيقية التي اشتهرت بالتجارة والصناعات النفيسة من حلي وعاجيات، وسيطرت على حوض المتوسط زمناً طويلاً، كما تدل على ذلك مستوطنات أرواد وجبلة وعمريت ورأس البسيط في الساحل السوري، وجبيل، في الساحل اللبناني، وغزة، في فلسطين وغيرها. إن التاريخ السياسي لممالك عصر الحديد ومدنه معقد ومتداخل؛ وهو شديد الاضطراب، خاض فيه الجميع صراعات وتحالفات متبدلة، كما تعرضوا لاحتلالات وضغوط خارجية، وخاصة آشورية ومصرية. التأثير الأكبر على سورية أتى من الإمبراطورية الآشورية الحديثة، التي تحركت من عواصمها المتتالية، كلخو (النمرود) ودورشاروكين (خور سباد) ونينوى (تل قوينجيق وتل نبي يونس) لتفرض سيطرتها في كل الاتجاهات وصولاً إلى مصر. وما معركة قرقر، في منطقة الغاب في سورية، إلا إحدى المواجهات العسكرية الكبرى التي تحالف فيها ملوك بلاد الشام الآراميون ضد الآشوريين، في منتصف القرن التاسع ق.م. كما تذكر المسلة التي عُثر عليها في كلخو وظهر فيها ملك إسرائيل وهو يقبل الأرض أمام قدمي العاهل الآشوري شلمنصر الثالث.
تابع الآشوريون ضغوطهم على مدن الآراميين والعرب والفينيقيين وانتهوا إلى فرض سيطرة شاملة على الجميع، بعد أن سقطت مملكتا دمشق وحماة القويتان، وذلك في نهاية القرن الثامن ق.م. وتسجل الحوليات الآشورية والتوراة تفاصيل قاسية من تدمير وحرق للمدن وقتل وتهجير للسكان مارستها الجيوش الآشورية ضد الجميع. إلا أن الإمبراطورية الآشورية نفسها لم تلبث أن سقطت على أيدي الكلدانيين، المتحالفين مع الميديين في إيران، في سنة 612ق.م. لقد دمر الكلدانيون، البابليون الجدد Neo-Babylonians عاصمة الآشوريين نينوى، وجعلوا من بابل عاصمة الدولة الكلدانية. خضعت سورية من جديد لسلطة الكلدانيين الذين احتلوا دمشق، وامتد نفوذهم إلى سواحل المتوسط ومصر، وتميز الكلدانيون بحروبهم التي شنوها على اليهود، وخاصة حين دمر الملك الكلداني القوي، نبوخذنصر، أورشليم (القدس) مرتين وهجَّر اليهود إلى بابل في النصف الأول من القرن السادس ق.م. لكن الإمبراطورية البابلية الحديثة (الكلدانية)، ما لبثت، بعد موت نبوخذنصر، أن انهارت على يد الأخمينيين (الفرس)، في إيران، الذين احتلوا في عصر مليكهم قورش الثاني (العظيم) بابل عام 539ق.م. وقد تابع ملوك الأخمينيين فتوحاتهم الكبرى وأسسوا امبراطورية امتدت من وادي السند في الشرق حتى مصر في الغرب وفرضوا سيطرتهم على فلسطين والجزيرة العربية وسورية التي أصبحت الولاية الخامسة للإمبراطورية وعاصمتها دمشق. وتحتفظ مدينة ماراتوس بآثار واضحة من هذه المرحلة، وعلى الرغم من السيطرة العسكرية للأخمينيين بقيت بلاد الشام تلعب دوراً رائداً تجلى خاصة في اعتماد الآرامية لغة رسمية للإمبراطورية الأخمينية، واستمرار التأثيرات الشرقية التي ميزت العمارة والفنون الأخمينية على مختلف أنواعها. لم تلبث الإمبراطورية الأخمينية نفسها أن سقطت على يد الاسكندر المقدوني الذي احتل سورية عام 333ق.م. وهكذا دخل المشرق العربي القديم في مرحلة جديدة، لم تعد فيها شعوبه تحكم نفسها بنفسها، وإنما خضعت لسيطرة خارجية من دون أن يعني ذلك تراجع إسهاماتها الحضارية على مر العصور.
منقول