مدينة غرناطة القريبة من مدريداليوم نتناول فتح الأندلس وهي شبه الجزيرة الأيبيرية (قديما)، وإسبانيا والبرتغال (الآن)، لنتعرَّف على حال الأندلس قبل الفتح وبعده وكيف تم فتحها على يد طارق بن زياد.
الأوضاع في الأندلس قبل الفتح الإسلامي
كانت الأندلس قبل الفتح الإسلامي يسودها الضعف والانحلال وانتشار الظلم وكثرة الثورات؛ لأن الدول العظمى التي تتحكم في الأمم تجعل الظلم قاعدة من القواعد التي ترسّخها في العالم.
وتوالت الثورات في الأندلس حتى استقر بها القوط الغربيون وأسسوا مملكتهم المشهورة في تاريخ أوروبا، وكانت هذه الأسرة متأثرة بالحكم دون غيرها، وكان النبلاء ورجال الكنيسة هم الطبقة التي تختار الملوك.
أما من الناحية الاجتماعية فقد كان المجتمع فاسدًا يقوم على البقية؛ فانقسم أهل الأندلس إلى خمسة أنواع: النبلاء وهم سلالة القوط الفاتحين وقد استولوا على أكثر الأرض الخصبة مع إعفائها من الضرائب، ورجال الدين وكانوا تمامًا مثل النبلاء في ملكية الأرض والنفوذ، والتجار وصغار الملوك وعلى عاتقهم يقع عبء دفع الضرائب وإشباع نهمة الحاكمين، وطبقة عبيد الأرض وهم الفلاحون في أرض كبار الملاك ويدخلون بأنفسهم وعائلاتهم في عداد ثروة المالك ولم تكن لهم حقوق وكانوا ينقلون مع ملكية الأرض من سيد لآخر، وأخيرا طبقة اليهود الذين تسربوا مع القوط ولعبوا دورًا هامًا في حياة الأندلس، وتمكّنوا من الاستحواذ على مرافق البلاد الاقتصادية وأحس الحكام بوطأتهم فراحوا يناصبونهم العداء وأرغموهم على ترك اليهودية والدخول في المسيحية، وبلغ البؤس بأهل الأندلس إلى أن حل بهم الوباء في السنوات: 88، 89، 90 هـ حتى مات أكثر من نصـف سكانها.
ولكن ما هي الأسباب التي دعت المسلمين إلى فتح الأندلس في هذا الوقت بالذات؟
ذهب المسلمون إلى الأندلس؛ لأنهم كانوا قد وصلوا في فتوحاتهم إلى المغرب الأقصى وبعد المغرب الأقصى يوجد المحيط الأطلسي، فإمّا أن يتجهوا شمالاً ويعبروا مضيق جبل طارق ويدخلون إلى بلاد الأندلس، وإمّا أن ينزلوا جنوباً في الصحراء الكبرى.
ولعدم اهتمام المسلمين بجمع الأراضي والممتلكات ولأن هدفهم الأساسي من هذه الفتوحات هو نشر الإسلام وتعليمه للناس قرروا فتح الأندلس؛ حيث إن الصحراء الكبرى قليلة السكان جداً، فلمّا انتهوا من فتح بلاد المغرب العربي انتقلوا إلى الدولة المجاورة مباشرة.
فكرة الفتح
كتب القائد موسى بن نصير -أمير المغرب في ذلك الوقت- يستأذن الخليفة الأموي بدمشق الوليد بن عبد الملك، فجاء رد الخليفة الوليد: "أن خضها بالسرايا حتى تختبرها، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال"، فكتب إليه موسى: "إنه ليس ببحر وإنما هو خليج يكاد الناظر أن يرى ما خلفه"، فرد عليه الخليفة: "وإن كان، فاختبره بالسرايا"، فأرسل موسى حملة استطلاعية كما أمره الخليفة في مهمة استطلاعية، واجتازت البحر في أربعة مراكب، ثم قامت هذه الحملة بسلسلة من الغارات السريعة على الساحل غنموا فيها كثيراً، مما شجّع هذا موسى على عبور الأندلس.
واختار موسى للفتح طارق بن زياد وهو ليس من أصل عربي، ولكنه من أهالي البربر الذين يسكنون بلاد المغرب العربي، تعلّم القراءة والكتابة وحفظ سورًا من القرآن الكريم وبعضًا من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ساعده حبه للجندية في أن يلتحق بجيش موسى بن نصير، وأن يشترك معه في الفتوحات الإسلامية، وأظهر شجاعة فائقة في القتال ومهارة كبيرة في القيادة لفتت أنظار موسى بن نصير بشجاعته وقوته، ولهذا عهد إليه بفتح شمال إفريقيا.
حلم "طارق" الكبير
كان الحلم الأكبر الذي يراود طارق بن زياد هو اجتياز الماء إلى الجهة الأخرى واجتياح إسبانيا، التي كانت تحت حكم ملك القوط "لذريق"، وكان الكونت "جوليان" حاكم "سبتة" يناصب "لذريق" هذا العداء، ولهذا قام بالاتصال بطارق بن زياد وموسى بن نصير وأخذ يحثهما على غزو إسبانيا مبديا استعداده لمساعدتهما.
وبعد مراسلات مع الخليفة في الشام وافق الخليفة على ذلك، وجهّز موسى بن نصير جيشًا من العرب والبربر يبلغ سبعة آلاف مقاتل بقيادة طارق بن زياد فعبر البحر من "سبتة" في سفن "جوليان" ونزل في مضيق جبل طارق الذي لا يزال يحمل اسمه حتى اليوم، وواصل سيره حتى وصل لمدينة "قرطاجنة"، ثم زحف غربًا واستولى على المدن المحيطة بها، وأقام قاعدة حربية لتكون نقطة انطلاق على باقي بلاد الأندلس.
وركب طارق السفن في سبعة آلاف من المسلمين، معظمهم من البربر، وبينما هو في عرض المضيق على رأس سفينته إذ أخذته سنة من النوم، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وحوله المهاجرون والأنصار، قد تقلّدوا السيوف، وتنكبوا القسيّ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا طارق تقدّم لشأنك"، ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس، مما جعله يتشجع لفتحها.
وقاد طارق بن زياد جيش المسلمين واجتاز المضيق الذي يفصل بين شمال إفريقيا وأوروبا، والذي أصبح يُعرَف فيما بعد باسم "مضيق طارق بن زياد"، والتقى الجمعان بالقرب من نهر لكه، ولما بلغ طارق نبأ اقتراب "لذريق"، بجيشه القوطي الكثير العدد، قام في أصحابه فحمد الله سبحانه وتعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد، ورغّبهم في الشهادة، ووقف طارق بن زياد يومها أمام جنوده وألقى خطبته المشهورة:
"أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة، أضيع من الأيتام، على مأدبة اللئام وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم، إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام، على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم، الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم، خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة. وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحَذِّركم أمراً، أنا عنكم فيه بنجوة، ولا حملتكم على خطة، أرخص متاع فيها النفوس، إلا وأنا أبدأ بنفسي.
واعلموا أنكم إن صبرتم، على الأشق قليلاً، استمتعتم بالأرفه والأَلَذِّ طويلاً. فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي، وقد بلغكم ما أَنْشَأَتْ هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعِقْيَان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان.
وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك، أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطِّعَان، واستماحكم بِمُجَالَدَةِ الأبطال الفُرْسَان، ليكون حظه منكم ثواب الله، على إعلاء حكمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مَغْنَمُها خالصا لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين. واعلموا أني أول مجيب لما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين، حامل بنفسي على طاغية القوم: لذريق، فقاتله إن شاء الله تعالى. فاحملوا معي، فإن هلكت بعده، فقد كفيتكم أمره، ولم يُعْوِزْكُم بطل عاقل تسندون إليه أموركم. وإن هلكت قبل وصولي إليه، فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا إليهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون".
خريطة توضح خط سير الفتوحات بالأندلسحقيقة إحراق طارق بن زياد للسفن
ذكر بعض المؤرخين أن طارق بن زياد، أحرق السفن التي عبر بها المضيق، كي يقطع على الجيش الإسلامي كل أمل في العودة أو النجاة، فيستميت في القتال.
ولكن السؤال هل أحرق طارق السفن حقيقة؟
إن العقل والمنطق السليمين، يستبعدان هذا التصرف من طارق بن زياد وأمثاله من القادة، الذين عرفهم التاريخ، كما تستبعدها طبيعة القيادة العسكرية الرشيدة، وتقاليدها في التاريخ الإسلامي قاطبة، وفي تاريخ فتح المسلمين للأندلس، على وجه الخصوص.
كما أن جند طارق لم يكونوا يفتقرون إلى الحماسة، وصدق الرغبة في القتال، حتى يضطرهم طارق بحرق السفن إلى تغيير مواقفهم، كما أنه من غير المقبول عسكرياً أن يرتكب قائد، مثل طارق بن زياد، عملاً يضعف قوة جيشه، ويحرمه من المدد الذي يوافيه من القيادة، أو على الأقل يبطئ به.
المعركة الفاصلة
وبعدها هجم المسلمون على جيش القوط في معركة وادي لكة فدبّ الرعب في قلوبهم، أما قائدهم "لذريق" فلمحه طارق بن زياد وصوّب رمحه نحوه وأرداه قتيلاً يتخبّط في دمائه التي صبغت لون النهر. وعندها صاح طارق بن زياد: "قتلت الطاغية.. قتلت لذريق".. وبعد هذه المعركة صار الطريق ممهداً أمام المسلمين لفتح البلاد. وفتح طارق المدن الإسبانية واحدة تلو الأخرى سنة 92هـ/711م ، لكنه احتاج إلى المدد فكاتب موسى بن نصير قائلاً: "إن الأمم قد تداعت علينا من كل ناحية فالغوث الغوث". سارع موسى بن نصير ووصل الأندلس على رأس جيش قوامه 18 ألف مقاتل من العرب والبربر وذلك سنة 712م. واتحد الجيش مع جيش طارق بن زياد، حيث خاض الجيش الموحد معركة "وادي موسى" التي هزم المسلمون فيها جموع القوط ودانت لهم بعد هذا النصر الأندلس كلها.
وأخيراً لقد قررت معركة وادي لكة مصير الأندلس لمدة ثمانية قرون، وظل الأثر العربي الإسلامي في إسبانيا حتى يومنا هذا.
نهاية طارق بن زياد
كان لطارق بن زياد فضل كبير في إخضاع القبائل البربرية في شمال إفريقيا وفي فتح الأندلس وهزم القوط في معركة "نهر لكه" ومعركة "وادي موسى"، وبالرغم من قلة جنده وشحّ المساعدات، وبالرغم من المصاعب التي واجهها في بلاد يدخلها لأوّل مرة، فإنه استطاع فتح الأندلس وتحقيق الانتصار، وكل هذا لم يشفع له عند موسى بن نصير الذي ربما يكون قد توجه للأندلس عام 712م لا ليقدّم المساعدات لطارق بن زياد بعد رسالته إليه، وإنما لينسب فتح الأندلس لنفسه، لقد كان موسى بن نصير حاقداً على طارق؛ لأنه تقدّم أكثر مما أراد، وبدلاً من تهنئته قام بإهانته وتوبيخه ثم عزله وسجنه ولم يطلق سراحه إلا بعد تدخّل الخليفة الوليد بن عبد الملك، أما طارق بن زياد جالب النصر والغنائم فأهمِلَ وبقي بدون شأن ومات فقيراً سنة 720 م، حيث لقي ربه بعد أن كتب اسمه في صفحات التاريخ بحروف من نور، وكان يستحق أن يكون والياً على البلاد التي فتحها مثله مثل عمرو بن العاص الذي فتح مصر وتولى ولايتها.