الدولة الرسولية في تعز 1229- 1454
تعد الدولة الرسولية من أشهر الكيانات السياسية التي حكمت اليمن خلال العصر الوسيط بعد أن انتقل الحكم إليها من الأيوبيين في سنة 1229 حتى نهاية حكمهم على يد الطاهريين في سنة 1454. وهنا سنحاول إلقاء الضوء على أهم المحاور التي تخص تاريخ هذه الدولة.
سبب تسمية (الرسوليين)
اكتسبت الأسرة تسميتها نسبةً إلى المدعو (محمد بن هارون) الذي دخل في خدمة احد الخلفاء العباسيين خلال القرن الثاني عشر الميلادي (ولا يُعرف حاليا مَن هو الخليفة المقصود تحديدا) الذي وثق به بسبب فصاحته وحكمته فضلا عن أمانته، فجعله رسوله إلى الشام ومصر، حتى اُطلق عليه لقب (رسول)، فاشتهر بهذا الاسم هو وعائلته من بعده. ثم استقر (رسول) هذا في مصر ودخل في خدمة الأيوبيين. وعندما دخلت مصر تحت حكم الأيوبيين استعانوا بالرسوليين واصطحبوهم معهم خلال حكمهم لليمن. ويُذكر إن توران شاه قد اصطحب معه خمسة من أبناء البيت الرسولي، من أبرزهم عمر بن علي الرسولي الذي حارب مع الأيوبيين في اليمن حتى انتقلت السلطة إليه على النحو الذي مر بنا.
أصل الرسوليين
يتفق معظم المؤرخين على إن الأسرة الرسولية تنتسب من حيث الأصل إلى الغساسنة، وهم فرع من قبيلة الأزد اليمانية، ولكنها فقدت هويتها العربية فيما بعد. وثمة خلطٌ في الوقت الحاضر بخصوص المعلومات التي تخص نسب الأسرة. ففي الوقت الذي يؤكد فيه البعض أصلهم العربي، يزعم آخرون إنهم من أصل تركي (في مقدمتهم المؤرخ جورج سمث المتخصص بتاريخ الدولة الرسولية). ولكن الثابت إن أصل الرسوليين يرجع إلى الغساسنة (كما أسلفنا) التي انتقلت إلى شمالي شبه الجزيرة العربية بعد انهيار سد مأرب، وانتشروا في بلاد الشام. ولكن سبب الخلط في المعلومات عن أصل الرسوليين يرجع إلى إن احد أجداد الأسرة في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب اعتنق الديانة المسيحية وذهب للعيش في بيزنطة. وفيما بعد، هاجر أولاده إلى أراضي التركمان واستقروا بين قبائلهم، ولاسيما قبيلة (المنجك)، وهي إحدى قبائل الأُغز التركية. وهناك تزاوجوا مع التركمان وتحدثوا لغتهم ففقدوا هويتهم العربية تدريجيا. ولم تنتقل الأسرة إلى العراق إلا في عهد (محمد بن هارون) المذكور آنفا. ومن هنا حصل الخلط بين المؤرخين وعلماء الأنساب بشأن أصل الرسوليين.
امتداد الدولة ونفوذها:
تعد الدولة الرسولية، التي اتخذت من (تعز) عاصمة لها، من أطول الكيانات السياسية عمرا في تاريخ اليمن الوسيط، إذ استمر حكمها قرنان وثلث القرن تقريبا، وحكمها (15) ملكا، أولهم نور الدين عمر بن علي وآخرهم المسعود الرسولي. ويرى بعض المؤرخين إن المؤيد الرسولي، منافس المسعود، هو آخر الملوك. ولكن كليهما انتهى حكمه في سنة 1454 على يد الطاهريين كما سنرى. وخلال هذه الحقبة الزمنية تمكن الرسوليون من توحيد اليمن تحت حكمهم، من حضرموت جنوبا حتى الحجاز شمالا (لمدة محدودة)، ودانت لهم القبائل والأسر الحاكمة، مثل الزيديين في (صعدة) وآل حاتم في صنعاء. وعموما، يمكن تقسيم تاريخ الدولة الرسولية على ثلاث مراحل: مرحلة التأسيس وتوطيد السلطة، ومرحلة القوة وبسط السيطرة، وأخيرا مرحلة الانهيار والسقوط.
المرحلة الأولى: مرحلة التأسيس وتوطيد السلطة (1229-1321)
بدأ الرسوليون، حال انتقال السلطة إليهم من الأيوبيين في سنة 1229، بخطوتين رئيسيتين كان الهدف منهما تثبيت حكمهم وتوطيد سيطرتهم على البلاد. وكما يأتي:
الخطوة الأولى: إعلان تبعيتهم للخلافة العباسية في بغداد واستقلالهم عن الأيوبيين.
كانت الخطوة الأولى التي لجأ إليها الرسوليون هي إعلان تبعيتهم للخلافة العباسية في بغداد منذ بداية حكمهم، فكانوا يخطبون للخليفة العباسي المستنصر بالله في خُطب الجمعة. وكان من نتيجة ذلك اعتراف الخلافة العباسية بسلطة الرسوليين رسميا في سنة 1235 (التي تعد البداية الحقيقية لتأسيس الدولة الرسولية)، إذ تلقى نور الدين عمر بن علي كتابا رسميا اعترف به الخليفة العباسي بسلطة الرسوليين واستقلالهم عن الأيوبيين. ولاشك إن الخلافة العباسية كانت في ذلك الوقت في حالة تداعي وانهيار وليس لها سوى الموافقة على الاستجابة لطلبات مَن لا يزال يرى في غطائها الروحي أهمية لتوطيد حكمه. وسبق للرسوليين أن أعلنوا استقلالهم عن الدولة الأيوبية في مصر في سنة 1232. وبهذا حكموا اليمن مباشرةً مع بقاء ولائهم لعاصمة الخلافة في بغداد.
الخطوة الثانية: إخضاع الأسر الحاكمة في اليمن والقضاء على حركات التمرد فيها
بعد أن حصل الرسوليون بتفويض رسمي من عاصمة الخلافة في بغداد بحكمهم، بدأوا أولى خطواتهم لبسط نفوذهم على أراضي اليمن وتوحيد أراضيه، من خلال القضاء على حركات التمرد وإخضاع الأسر الحاكمة المناوئة، وأبرزهم الزيديون في صعدة (شمالي صنعاء) وآل حاتم في صنعاء. وأهم حركات التمرد التي واجهها الرسوليون في عهد المظفر الرسولي (1249-1295)، هي: (1) تمرد الوالي الرسولي في صنعاء، و(2) وتمرد القوى الزيدية بزعامة الإمام المهدي من جهة ثم تمرد الحمزات (وهم أبناء وأحفاد الإمام عبد الله بن حمزة)، وهم منافسو الإمام المهدي من جهة أخرى؛ و(3) وتمرد سلطان حضرموت سالم بن إدريس. وقد تمكن المظفر الرسولي من القضاء على حركات التمرد هذه كلها بطريقة أو بأخرى. فقد تمكن من القضاء على تمرد القوى الزيدية مثلا عن طريق تحالفه مع (الحمزات)، كما جهز حملات برية وبحرية ضد سالم بن إدريس انتهت بهزيمته ومن ثم مقتله.
وفي عهد الملك المؤيد الرسولي الذي حكم نحو 25 سنة (1297-1321) تمكن الرسوليون من القضاء على حركات التمرد في مناطق (المخلاف السليماني) في تهامة، كما واجهوا تمرد الزيديين في مناطق الجبال أيضا.
المرحلة الثانية: مرحلة القوة وبسط السيطرة (1321-1362)
تشمل هذه المرحلة حكم المجاهد الرسولي الذي حكم 41 سنة (1321-1362). شهدت هذه المرحلة أقوى حركات التمرد من مختلف الأطراف، سواءً كانت من داخل الأسرة الرسولية نفسها أو من الجيش أو الطامحين في الاستقلال، مما اضطره للاستعانة بقوة من المماليك تحولت إلى وبال عليه فيما بعد. ومع ذلك، تعد هذه المرحلة من أهم مراحل تاريخ الدولة الرسولية، إذ شهدت اليمن وحدةً سياسية استمرت نحو قرن من الزمان وهيمنة لسلطة الدولة على معظم مناطق البلاد، بل ووصل النفوذ الرسولي في بعض الأحيان حتى الحجاز.
ومع ذلك، شهدت السنوات الأخيرة من حكم المجاهد تصدعا في وحدة اليمن السياسية حينما تمكن جيل جديد من الأئمة الزيدية من بناء قوة جديدة في القسم الشمالي من اليمن مكّنتهم من السيطرة على ذلك القسم حتى ذمار واقتطاعه من جسم الدولة الرسولية خلال الثلث الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، لتبدأ بعد ذلك أركان الوحدة اليمنية بالتقوض والانهيار تدريجيا.
المرحلة الثالثة: مرحلة الانهيار والسقوط (1363-1454)
بعد وفاة الملك المجاهد تعاقب على حكم الدولة الرسولية عدد من الملوك الذين اتسم تاريخ اليمن خلال حكمهم بالاضطرابات السياسية، بسبب حركات التمرد والصراع الداخلي على السلطة، مما تسبب في إضعاف الدولة وتمزيقها بين المتنافسين. وكانت آخر تلك الحروب هي تلك التي جرت بين الملك المسعود (1446-1454) وأخيه المظفر الثاني.
وقد سبق للمسعود أن تمكن من إخضاع مناطق تهامة وعدن ليزحف منها إلى تعز لطرد الملك المظفر الثاني منها. وقد استغل مماليك تهامة الحرب بين المتنافسَين، ليشددوا قبضتهم على تهامة وينصّبوا (الأمير حسين بن الملك الظاهر) ملكاً للدولة ولقبوه ﺑ(المؤيد) في سنة 1451. وهكذا أصبح هناك ثلاثة ملوك رسوليون في وقت واحد (واحد في تهامة، والآخر في عدن ، والثالث في تعز)، يتنازعون على السيادة.
شجع هذا الوضع منافسي الدولة الرسولية، الطاهريون، على الطمع في السلطة وطرد الرسوليين، فدخلوا عدن سنة 1454، واسروا الملك المؤيد، وهو آخر حكام الدولة الرسولية. أما بعض المؤرخين فيرى إن المسعود هو آخر ملك رسولي، بدعوى إن المؤيد لم يكن سوى منافس على السلطة. على أية حال، فقد انتهى كلاهما في سنة 1454 بدخول الطاهريين.
العلاقات المملوكية ـ الرسولية وسبب الخلاف بينهما
اتسمت العلاقات الرسولية ـ المملوكية خلال المراحل المتأخرة من حكم الدولة الرسولية بالتوتر. ويعود سبب ذلك التوتر أساسا إلى عوامل اقتصادية تتعلق بمسألة التجارة بين اليمن ومصر. فقد تابع الملوك الرسوليون خلال المراحل الأخيرة لاسيما عند مطلع القرن الخامس عشر الميلادي سياسة قوية في شبه الجزيرة العربية، واخذوا يرسلون الوفود إلى الهند وسيلان والصين، وأعادوا الحياة لميناء عدن الذي أصبح في تلك المرحل من أهم موانئ التجارة الشرقية. حدث هذا في الوقت الذي كان فيه سلطان المماليك (بارسيباي) يسعى لتحويل خطوط التجارة الشرقية إلى الموانئ التي آلت إلى حكمه في الحجاز، لاسيما إن تجارة الصين بدأت تنتعش عبر طريق البحر الأحمر بعد اضمحلال وتعطل طرق التجارة البرية القديمة التي كانت تمر عبر بلاد فارس.
وتزامنت مرحلة الاضطرابات في اليمن مع محاولات بارسيباي لتوطيد سيطرته على الحجاز، فاصطدمت مصالح الطرفين في هذه النقطة، الأمر الذي دفع بارسيباي لانتهاز الفرصة وإستغلال الأوضاع المضطربة في الدولة الرسولية، ومن ثم التفكير بالقضاء عليها بالتعاون مع الزيديين كما رأينا.
وكان للتدخل المملوكي في اليمن خلال هذه المرحلة أثره في التجارة الشرقية، فبعد تدهور الأوضاع في اليمن بدأ التجار الشرقيون يبحرون نحو باب المندب، ومنه إلى جدة مباشرة، دون التوقف في ميناء عدن الذي بدأ دوره يتراجع قياسا إلى دور جدة التي بدأ دورها يتصاعد في التجارة الشرقية، لتصبح واحدة من أهم الموانئ التجارية في الدولة المملوكية. وابتداءً من سنة 1425 بدأ المماليك بانتزاع جمارك جدة من الأشراف في مكة، على الرغم من إنهم كانوا يسمحون لهم بمشاركتهم أحيانا، مما يعني تحكم المماليك بالتجارة الشرقية المتوجهة إلى ميناء جدة بشكل مباشر، مما اكسب السلطان بارسيباي سيطرة مباشرة على موانئ البحر الأحمر وزيادة كبيرة في العوائد.
انجازات الرسوليين وعلاقاتهم الخارجية
اتسم حكم الرسوليين بكثير من الإنجازات المهمة في ميدان العلم والتجارة والزراعة والطب، فقد بنوا المدارس الكثيرة وأكرموا العلماء. وكان كثير من ملوكهم علماء وشعراء وأصحاب رأي ومؤلفي كتب في فروع المعرفة المختلفة، ولا تزال مدينة تعز حتى يومنا هذا تشهد على منجزاتهم العمرانية، ولاسيما جامع المظفر وجامع الأشرفية ومدرسة الأشرفية وحصن تعز الذي يسمى الآن ”قاهرة تعز“، فضلا عن آثار المدارس الفقهية. وفي زمانهم برز العلماء والشعراء في كل فن، وهو سر الإعجاب المتزايد بالدولة الرسولية، التي أخذت تلقى اهتماما متزايدا من المؤرخين والدارسين عموماً بتاريخ اليمن الوسيط في الآونة الأخيرة.
ولعل أبرز ما يشير إلى سطوع نجم الدولة الرسولية وتبوؤها مكاناً لائقاً بين أمم عصرها تلك الرسالة التي وجهها مسلمو الصين إلى الملك المظفر (1249-1295) يشكون فيها من تعسف ملك الصين ومنعهم من ختان أولادهم.ومجرد توجيه هذه الرسالة إلى الملك المظفر يعني أن مسلمي العالم كانوا يرون في الملك الرسولي ”خليفة للمسلمين“ يتوجهون إليه بالشكوى. وقد تصرف الملك المظفر بما يتفق ومكانته في نفوس مسلمي الصين، إذ أرسل إلى ملك الصين رسالة (معها هدية قيّمة) يطلب فيها منه السماح لمسلمي الصين بختان أبنائهم، فرفع ملك الصين الحظر على ختان المسلمين لأبنائهم، مما يدل على تقديره لمكانة الدولة الرسولية، لاسيما وأن ملوك الصين المعاصرين للدولة الرسولية كانوا يعدّون أنفسهم سادة العالم، وينبغي على الجميع الخضوع لهم.