من المؤكد أن رمضان هذه الأيام غير رمضان قديما ، يدرك
هذا من عمر طويلا مثلي ، ما الشيء المختلف بالضبط ؟ نفس عدد ساعات الصوم ،
الناس هم الناس ، البلد هي البلد ، الأطعمة هي الأطعمة مع تحور بسيط ، لكن
المفتقد شيء معنوي ، هو الروح ، روح رمضان هي ما أفتقدها
لو
تكلمت عن العادات الرمضانية ، فلا أستطيع أن أتكلم عن العادات الحالية إذ
هي تؤدى بطريقة روتينية ، لكن العادات الرمضانية القديمة دعوني أحدثكم
عنها ، مع الشكر لمينا صاحبة الفكرة ، وصاحبة العرض الجذاب اللذيذ ،
سأستدعي أشياء علاها الغبار تحت أطنان من الذكريات الأوراق تتساقط والزمن
يدور بطريقة عكسية ، والليل يعقبه نهار حسنا سأتوقف هنا المكان هو القرية
منبع الذكريات كالعادة ، الزمان أحد شهور رمضان بين العصر والمغرب ، هذا
الوقت كان أحب الأوقات إلينا ونحن أطفال ، لاقتراب أذان المغرب ، غالبا لم
نكن نصوم ، كنا نتباهى بقولنا أنا صمت 12 يوم هذه السنة ، وهذا يقول أنا
صمت عشرة ، كانت أختي تكبرني تصوم الشهر كاملا كان هذا يترجمه عقلي بأن
البنات أكثر قدرة واحتمالا للصوم من البنين ، ما زالت هذه الفكرة راسخة في
عقلي للآن ، على كل حال سواء كنا صائمين أم مفطرين كان لا بد من طقوس
"انتظار الصائم" هكذا كنا نسميها وانتظار الصائم اي انتظار آذان المغرب ،
في ميدان القرية في وسطها كان هناك نصبا مبنيا جدار صغير واطئ لا يتعدى
المتر ارتفاعا تحول فيما بعد لنقطة المرور كان هذا المكان الذي ننتظر فيه
أذان المغرب ومعنا المدافع اليدوية التي صنعناها بمفصلات الباب الحديد
وأعواد الكبريت والمسامير ، تطورت فيما بعد هذه العملية ولكنها ما زالت
موجودة ، نظل نلعب نلهو ونجري ، نتشاجر ونضرب بعضنا البعض ونضحك في هذا
المكان ، كان ملتقى أطفال القرية ليس كلهم فلكل منطقة مكان انتظارها الخاص
بها ، ولكن كانت تعج بالأطفال ، أطفال المنطقة كلها المقسمة لمناطق فرعية
، لم نكن نعرف أغلبهم المكان ممتلئ ويعج بهم وطبيعي أن تثور المشاجرات
والمشاكل الصبيانية في هذا الوقت التي قد تتطور لإصابات كبيرة كذلك الشج
في رأسي نتيجة طوبة تم قذفي بها وولى الطفل هاربا لأعود بجرح بالغ في
جبهتي وقتها ، الساعة المنتظرة تقترب تصمت الأصوات ، وتشرئب الأعناق والكل
يعد مدفعه ومتأهب ، نلمح المؤذن يخرج ليقف أمام المسجد ليؤذن يرتفع الأذان
: الله أكبر الله أكبر ، ليبدأ ماراثون الجري نتسابق للوصول إلى البيوت
ونحن نطلق المدافع ، ونردد الأناشيد الخاصة بنا هل ما زلت أذكرها ؟ نعم
بكل تأكيد ( ادن ادن على العيش الملدن والكحك ام سكر ) أو ( يا فاطر رمضان
يا خاسر دينك ، كلبتنا السودة هتقطع مصارينك يا صايم رمضان يا موحد ربك ،
كلبتنا البيضا هتبوسك في خدك ) أو ( افطر يا صايم ، عفريتك نايم ، تحت
الشجرة ، .......) كلمة خارجة مكان النقط .
نرددها
بصوت مرتفع مع بعضنا ليعلم الآباء والأمهات في البيوت بأن المغرب أذن وحان
موعد الإفطار إذا لم يكونوا قد سمعوا الأذان في المسجد وخاصة حين انقطاع
الكهرباء وكانت تنقطع الكهرباء كثيرا في تلك الأيام ، هذا أهم طقس يومي
وهو ما كنا نسميه انتظار الصائم لنذهب لتناول الإفطار ، تغيرت عادتنا هذه
فيما بعد إذ كنا نفطر أولا ثم نصلي المغرب ثانيا ، ولكن بعد ذلك صرنا نصلي
المغرب أولا ثم نفطر ثانيا ، الطعام عادي لا شيء خاص برمضان في الإفطار
سوى الحلويات الكنافة والقطايف بعد الطعام ، ثم صلاة المغرب ثم نأخذ
فوانيسنا الجميلة التي اختفت ، كم كانت لذيذة فوانيس زجاجية لها باب صغير
وتضيء بالشمعة ولها حلقة معدنية والفانوس في قمته شرائح صفحيح مشقوقة
لتسريب اللهب والدخان الذي كان يلسعنا في أيدينا حين تكون الشمعة كاملة في
بدايتها هذا الفانوس له مذاق سحري له ذكرى رائعة وشكل رائع لم يعد موجودا
منذ اخترعوا هذه الفوانيس الكهربائية ثم بعد ذلك تحول شكل الفانوس لم يعد
فانوسا صار لعبة تغني ، ولكن الغريب أن في بداية اختراع الفوانيس
الكهربائية هذه فرحت بها جدا وكرهت فانوسي الشمعي وبكيت وطلبت من أمي أن
تحضر لي فانوس بالكهرباء واحضرت لي واحدا كنت فرحا به جدا كان ضوءه اقوى
وشكله بالنسبة لي احسن ولكنه مصنوع من البلاستك ويضيء بالبطاريات ولمبة
صغيرة ، لماذا أحن للفانوس الشمعي الآن وأكره تلك الفوانيس الكهربائية ؟
نظل
نلعب مع أصدقائنا بالفوانيس كل واحد يخرج بفانوسه ذي شكل مختلف وضوء مختلف
، كان اللعب يحلو أكثر لو الكهرباء انقطعت وكنا نتمنى أن تنقطع الكهرباء
حتى يكون للعب بالفوانيس مذاقه وطعمه الخاص ، بعد اللعب بالفوانيس نعود
للبيت نشاهد التلفزيون قليلا ولكننا لا نصبر على رؤيته لنخرج للعب
الاستغماية وكنا نسميها ( كهربا ) إحدى أنواع الاستغماية ، هذه هي طقوسنا
الطفولية ثم نعود لننام لنتسيقظ قرب الفجر للسحور ، مهما كنا منهكين
متعبين كان لا بد أن تستيقظ الأسرة كلها وتجتمع للسحور ، أذكر أني تخليت
عن هذه العادة فيما بعد وأكتفي بشربة ماء أو كوب الشاي قبل الفجر وكان
السحور يتأخر جدا لقبيل الفجر بحيث ننتهي منه قبل أذان الفجر مباشرة لنذهب
للصلاة ونعود للنوم ، أهم ما كان يميز المائدة الرمضانية في السحور هو
الفول المدمس المصنوع في البيت أو المدمس في البيت هذه من المظاهر التي
انقرضت فيما بعد ، كانت أمي تعد الفول في إناء يسمى دماسة خاص بها يوضع
الفول بعد تنقيته وغسله في ماء في دماسة ويوضع عليها الغطاء وحتى لا يتسرب
أي بخار منها يوضع العجين محيطا بفم الدماسة مكان التحام الغطاء بالدماسة
حتى لا يتسرب أي نقطة بخار ، ثم تعلق فوق لمبة جاز ليطيب الفول على الدخان
المتصاعد من اللمبة واللهب الخفيف جدا ، وكنت أتعجب كثيرا كيف يقوم هذا
اللهب الضعيف البعيد غير المباشر بنضج الفول ولكن الغريب أنه كان ينضج
وكان ألذ فول يمكن أن يأكله إنسان ، لعل هذا هو السبب في اعتزالي أكل
الفول فيما بعد لأنه لم تعد أمي تصنعه فلم أعد آكل الفول إذ صار بلا طعم .
نستيقظ
في اليوم التالي جائعين ، نجاهد رغبتنا في الطعام ، نقرر أن نستكمل الصيام
، نتحدى بعضنا ، قد يتسلل أحدنا خفية ليأكل شيئا في غفلة أو يشرب دون أن
ينتبه له أحد ، ليخرج موهما الباقين بأنه صائم وأنه صار رجلا كبيرا يستطيع
أن يصوم ، ولكن كنا نشك فيه ، نأمره أن يخرج لسانه فإذا كان أحمر فهو مفطر
ويخدعنا وإذا كان أبيض فهو صائم ، لا أدري هل هذا صحيح أم لا ؟ حتى لو كان
غير صحيح فإن المريب يكاد يقول خذوني بمجرد مواجته بهذه الحجة الدامغة كان
يقر بأنه أفطر ، وإلا يسارع بإخراج لسانه لإثبات أنه صائم ، أغلب الأيام
كان أقصى صبرنا عن الطعام الظهر ثم نقرر أن نفطر على وعد بالصوم في اليوم
التالي لأننا لم نتسحر جيدا هذا اليوم ، أما الليلة فسنتسحر جيدا ونصوم
غدا ، هكذا كنا نبرر لأنفسنا إقدامنا على الإفطار ، أطلب الطعام من أمي ،
تقول لي : ألن تستكمل الصوم ، اقول لها : مش قادر انا جوعان ، تشفق علي
فتعد لي الطعام ثم نخرج لننام في المسجد ، كان هذا أيضا من الطقوس
الرمضانية في القرية ، القيلولة ما بين الظهر إلى العصر في المسجد تجد
المسجد ممتلئا بالناس لا للعبادة ولكن للنوم كل مستلق بجوار الآخر تحت
هواء المراوح الكهربائية ، رمضان قديما كان يأتي في الصيف ، ننام حتى
العصر ، ثم نخرج لانتظار الصائم وهكذا تمر الأيام ...
هذه مذكرات طفل رمضاني فلا تؤاخذوني هذا بعض ما استدعته الذاكرة للطقوس الرمضانية