زمن الردة والرداءة
لما ضاق كوخي بعدد المرتدين , نصبت خيمة بجانبه لأباطرة الرداءة , وكلهم على مائدة فؤادي مقامرون , وعلى حساب دقات قلبي سامرون . ورحل البياض مبشرا ومنذرا , رفع الأذان , فأفطر من كان منهم صائما تملقا , وشرب الشاي المتأخرون عن السحور...
همز.. لمز.. غمز... وكز... هز... وفاز بالكأس من كان وراء الستار مختبئا , وبانت عن قرب ملامحه ... وقف الجميع ورؤوسهم تكاد تلمس بطونهم المنتفخة المكتنزة سحتا ورياء ..
أذن لهم بالركوع , عفوا أقصد الجلوس , فتسارع الأقزام لأقرب مجلس من القيصر , حيث القرب منه حماية مؤمنة بفحيح وريح نتنة , يتجشأ بها بركان القيصر , ورذاذ من سعير جهنم يتطاير من بين شدقيه فتتلقفه أيادي المرائين شغفا وتبركا , وأخيرا فك اللجام , وحلت عقدة القائد الهمام فقال: مالي لا أرى بينكم ذاك الذي يدعو للسلام؟أم أنه ألفى أحسن من مجلسنا هذا ومسك بالزمام؟ أليس طيب مقامنا وصدق حديثنا وإخلاص نياتنا وقوة إرادتنا وثبات عزمنا دليلا على شموخ هممنا وعلو شأننا؟.
أخاطبكم أنتم أيها القادة الرعاة ؟ والسادة الحفاة ؟ أيها الضحايا الجناة؟ قالوا عنا أن الجهل منهجنا .. والتجاهل مبدأنا .. والتهميش عقيدتنا.. أصحيح هذا الذي قيل ويقال؟
وبصوت واحد اهتزت له أوتاد الخيمة وما جاورها : ليس صحيحا يا مولانا..
وشملهم بنظرة لو صوبت نحو جبل لزعزعته وقال: ليس بعد اليوم من مارق عن جماعتنا و...
سكت القيصر وتجمدت حروف الهجاء في حلقه فهو ليس بقادر على بلعها ولا على النطق بها
بحلق الجميع فيه وهم بين حيرة ووجل ورهبة من دجل.
وتقدم ذاك الذي منه القيصر ذهل ..إنه الصدق .. إنه الحق .. إنه الخلق..إنه الفضيلة ولسانه بها نطق .
تزحزح تدحرجا القيصر عن مكانه وكله ذل ومسكنة .
صمت الكل فلا تسمع منهم همسا ولا حسا, ومسك الزائر الظريف اللطيف بمؤخرة رأس القيصر المنكسر, وقال له ولهم : الرب واحد.. والإسلام واحد .. والقرآن واحد.. ومحمد صلى الله عليه وسلم واحد لا نبي بعده. ونحن جميعا رجل واحد. أما من ارتد عن دينه الذي ارتضاه له ربه فقد شق , والقصاص عليه حق.
أما الرداءة فتلكم خرقة بالية وكسوة عارية , وأحذية لأقدام حافية , وسلسلة طولها سبعون ذراعا تجر للهاوية, وما أدراك ما هي؟ نار حامية .
ما لكم أيها القوم تخلطون أبيضا بأسود , وقد بان الخط الأبيض من الخيط الأسود , في القول والفعل إنها الردة والرداءة
ما لكم تحرفون الكلم عن مواضعه؟ وتؤولون الآي وأنتم تعلمون ؟ مالي أرى نهاركم سباتا وليلكم نشورا وحبورا وسحرا مأثورا؟
ما لكم لا توقرون شيخا هرما كبيرا ولا تحترمون صبيا ولا طفلا صغيرا ؟
ما لكم تذلون حين يحمى وطيس الشدائد ؟ وتهرعون زهوا وخيلاء لبخار الموائد ؟
ما لكم تحيفون عن جادة الصواب ؟ وتغلقون دونها كل الأبواب ؟
ما لكم للإفك مهطعين متنافسين جماعات وروافد ؟
أدعوكم أيها الناس فاسمعوا وعوا: إنها الفانية ... إنها الفاتنة ..إنها المغررة . . إنها المدمرة
لا تركنوا لها ولا تأمنوها ولا تؤمنوا بها ؟ طلقوها ثلاثا؟ أحسن لكم من ظل ذي ثلاث..
فخير الجزاء هناك عند ملك مقتدر . فإن أ رتبتم؟.. إن أبيتم ؟.. إن عصيتم؟.. فإنها في انتظاركم
إنها لا تبقي ولا تذر.
أيها الناس إني أرى سحب الردة قد نمت واستغلظ سوقها واشتد , وأن الرداءة قد بلغت منكم الحناجر وسال لعابها . فإلى أين أنتم بهذا الحال ذاهبون ؟ وما حصادكم من ذلك أيها الغافلون ؟
إن بركم ... وبركم ... وبركم يكاد يقع بين براثن أعدائكم إن لم تستجيبوا لربكم وتهتدون؟
وإني على يقين أن فيكم مستهزئين .. لا عبين .. لا هين ..جاحدين.. ملحدين , ولكنني لست بمسيطر عليكم, وليس بوسعي الا التضرع لله رب العالمين .
اللهم إياك نعبد وإياك نستعين ... اللهم أهدنا صراطك المستقيم .... آمين ...آمين...
ابراهيم تايحي