حَزينٌ أنا منذ بَـدء الوجودْ
كَحُزْنيَ حُزنُ غـلامٍ رضيعْ
يُلِحُّ يرومُ ارتشافَ الحـليبْ
فتقسو عليه صروفُ الزمانْ
وتضحك في مُقْلَتيهِ الدموعْ
فأين الرؤومْ
وأين الحنونْ
وأين التي في يَديـها الأمانْ
ومن شفتيها يَسيلُ الحنـانْ
إذا هي باتت بليلِ الشـتاءِ تُـهدهدُ طفلاً
يقيمُ الـربيعْ
ويحلو الرجيعْ
يلـذُّ المنـامْ
أليستْ تعـودْ؟
ألا من رجوعْ؟
وتعيا بردٍّ رعـودُ الشتاءْ
ويمضي نـهارْ
ويُطوى شبابٌ بِعُمْـرِ الزهورْ
ويأتي نـهارْ
يخـبِّئُ كـلَّ عذابِ الحـياةْ
سماءٌ تَنَاثَـرُ فيهـا النُّجُـومْ
كخبطِ الرُّجـومْ
سرابُ الحـياةِ وهُـزْءُ القَـدَرْ
وبعد قليـلٍ يـجيءُ الـجوابْ
وناعٍ حـزينٌ يَـزُفُّ الخبـرْ:
طواها الظـلامْ!
وأيُّ ظــلامْ؟
ظلامُ القبـورْ!
فأمُّك طِـفْليَ بين الصخورْ
تنامُ هنـاكَ منـامَ اللحودْ
وليستْ تعـودْ
فيعلـو نحـيبْ
كنَوحِ حمائمِ سِـدْرٍ عتيقْ
وتعوي ذئـابْ
ويجثو ظـلامٌ ثقيـلٌ يطـولْ
يليـهِ أُفـولٌ بإثـرِ أُفـولْ
تُوَدِّعُ فيـه السـماءُ الضياءْ
إلى لا قُـفُولْ
* * * * *
حزيـنٌ أنا منذُ بَـدءِ الحياةْ
كحزنيَ حـزنُ محبٍّ سجينْ
براه الأنينْ
ينامُ فيحلـمُ حُلْـمَ الحيـاةْ
ويهنأُ فيه بأحـلى الـرُّؤَى
وحـيـنَ يُفـيقْ
يَضِـلُّ الطريـقْ
سوادٌ كئيبٌ وصـمتٌ رهيبْ
وما من مجـيبْ
وبعد قلـيلٍ يجـيءُ الخبـرْ
وناعٍ بليدٌ ينادي "اسْفِـرَاهْ"*
فأنتَ سجـينْ
ستقبعُ دهـراً وراءَ الجُـدُرْ
ستقضي السنينْ
يُشَـنِّـفُ أذْنَكَ رنُّ القيـودْ
ويـملأ بطنـَكَ خبزُ اليهـودْ
طعامُكَ فُـولٌ وبَيـضٌ قـديمْ
لماذا يعـودُ إليـنا الصبـاحْ؟
أليس الظـلامُ يُغَطِّي الجراحْ؟
لِيبقَ الظلامْ!
وتنهشُ قلبي ذئابُ السنـينْ
وفي مقلتيَّ ذبـولُ انكسـارْ
ويغربُ في خافـقيَّ النهـارْ
لِتسبحَ عيـنيَ بين النجـومْ
بليلٍ طويـلْ
كَصَيفِكِ لُـنْدُنُ لا يستبينْ
فَفيهِ الشتـاءُ وفيه الربيـعُ وفيه الخَريفْ
وصَخْبٌ عنـيفْ
وصمتٌ مخيـفْ
فيا قلبُ قد شرَّدَتْكَ السِّنونْ
ويا قلبُ كم نال منكَ الحنينْ!
ألا ترحمـينْ
فـإنِّـيَ أخشى حلولَ الظـلامْ
ظلامِ القبورْ
وفي النفسِ شـوقٌ كطودٍ عظيمْ
وفي القلبِ حُزْنُ السنينَ الثِّـقالْ
سئمتُ نُـهوضيَ كلَّ صباحٍ مهيضَ الجناحْ
كئيبَ الفِكَـرْ
ألازم عُشَّـاً غَذَتْـه الهمـومْ
يطير أمامـيَ سِـربُ الحمامْ
وسربُ النسورْ
وكلُّ الطيـورْ
ولستُ أطيـرْ
ألا فـارجعـي
بحـقِّ الإلـه العلـيِّ القديـرْ
وَعُودي فعَـوْدُكِ أحمـدُ عَـوْدْ
وأكْـرَمُ عَودْ
أعيـدي إلىَّ عـبـيرَ الحـياةْ
بحـقِّ السماءْ
وحَـرِّ الرجاءْ
دعيني أُعَانِقْـكِ قبـلَ الأفـولْ
وفي العمْـرِ رَمْـقٌ كلمحِ البصرْ
دعيـني أُسـابقْ إليـكِ الرياحْ
برُغْـمِ الجـراحْ
وضُمي إليـكِ فؤادي الكسـيرْ
خذيـهِ فـإن لديـكِ الأمـانْ
لديـكِ الحنـانْ
وَلَكِنْ لَدَيْكِ صُنُـوفُ الْعَـذَابْ
وَقَلْـبي لَدَيكِ رَهيـنُ الْخَطَـرْ
دعيني فـإني نزفـتُ الـدمـاءْ
مكانَ الدموعْ
أناشـدُ في ناظـريكِ الحنـانْ
حنانـيكِ إني سئمتُ الضَّـياعْ
أُريدُ الرُّجُوعْ
* * * * *
ألا تَـذكرينْ …
عَشِيَّـةَ سِـرْنا بظـلِّ القَمَرْ
ورحنا مليّاً نناجـي السَّـحَرْ
ومـاءَ النَّهَـرْ
وَفَـيءَ الشجرْ
فكان كلامُك صـوتَ القدرْ
وحُكْمَ القـدرْ
يفيضُ حناناً كآيِ السُّـوَرْ
وينبضُ حباً عـميقَ الأثـرْ
كَبَـردِ الثُّـلوجْ
فتُصغي السُّـهولُ وتعنـو الجبالْ
فأنتِ مَـلاكٌ بـدا كـالبشـرْ
كلامُـكِ كان نشـيدَ الحيـاةْ
وروحَ الحيـاةِ وسـرَّ الحيـاةْ
وكنتِ لروحـيَ شـدوَ الطيورْ
وعرفَ الزهـورْ
وطيبَ الحيـاةْ
كأجمـلِ ما تُسـتطاعُ الحيـاةْ
ألا تذكـرينْ …
غـداةَ سريـنا بتلكِ السبيـلْ
نعُدُّ النخيـلَ بيـومٍ جـميلْ
نغـازلُ شمساً بلـونِ الفَـراشْ
حديثةَ عهـدٍ بِدِفءِ الفِـراشْ
أفاقت تُـؤَذِّنُ في الـرَّاقـدين
وتلقي سلامـاً بكـلِّ الدروبْ
ألا تذكرينْ …
شباباً جسـوراً وضيءَ الجبـينْ
تَخِذنـاهُ عبداً طَـوالَ السنـينْ
عدونا سِـراعاً تُجـاهَ التـلالْ
نداعبُ حينـاً نسيـمَ الصباحْ
وحيناً نثـورْ
ونَطـفُرُ، نركضُ بين الحـقولْ
وننقشُ في الرملِ أحـلى سُطورْ
ومعْـنا أقامـت تغـني السماءْ
وتشـدو الطيورْ
ومالتْ غُصُونٌ تناجي الغصونْ
وتسـرُدُ قصةَ حـبٍّ أصيـلْ
بـهمسٍ رقيقٍ كشمسِ الأصيلْ
تعانقُ موجاً بشط الزمـانْ …
تُـقَبِّلُ فـاهْ …
فتغرقُ فيـهْ
ألا تَذْكُرينْ …
بأنيَ صغتُـكِ شِعْرَ الجمالْ
كهمـسِ الأثـيرْ
ولـمسِ الحـريرْ
وصوتِ الخـريرْ
وبين يديـكِ ذرفت الدموعْ
كطفلٍ صغـيرْ
أفاق صباحاً يريـدُ الحليبْ
فلم يلقَ مَنْ في يَدَيْها الأمانْ
ومن شَفَتيها يسيلُ الحنـانْ
فأضحى النحيبْ
شِـعاراً لهُ مُنْذُ ذاكِ الزمانْ