موضوع الانسان العربي في مواجهه الاستبداد
الإنسان العربي في مواجهة الاستبداد
خضع الوطن العربي خلال قرون عديدة للحكم العثماني مارس خلالها العثمانيون أشكالا من القهر والاستبداد والتنكيل بالشعب ، ضاربين بعرض الحائط قونين المجتمع وشرائعه وتقاليده ، وذلك من أجل استمرار سيطرتهم وتقوية نفوذهم ، وقد تصدى الأدباء العرب لسياسات المستبدين فكشفوا جرائمهم ونددوا بسلبية الشعب ، كما عملوا على تحريضه من أجل التخلص من واقع الظلم والقهر والإستبداد.
وانطلق الأدباء في مهمتهم هذه بكشف طبيعة المستبد التي تنطوي على معاداة الحق والحرية ، لأن هذه المعاداة هي التي تمكنه من استمرار سيطرته و بطشه ، وفي هذا يقول الكواكبي
( المستبدّ عدو الحقّ عدو الحريّة وقاتلهما ، والحق أبو البشر والحرية أمهم )
والمستبدّ مجبول على الشر والظلم وهو لاينحو منحى الخير إلا بالإكراه ، حين يمتلك الشعب القدرة على إرغامه على فعل الخير ، وذلك حين يتسلح هذا الشعب بالعلم والمعرفة . وهو ماعبر عنه الكواكبي خير تعبير حين قال :
( المستبد إنسان مستعد بالطبع للشر ، وبالإلجاء للخير فعلى الرعيّة أن تعرف ما الخير وما الشر ، فتلجئ الظالم للخير على الرغم من طبعه )
ولعل التحكم في شؤون الناس من أبرز طبائعه حيث سعى من خلاله إلى فرض هيمنته عليهم . فالمستبد حاول فرض سيطرته على الشعب بالقوة فأصبحت أهواؤه ورغباته قوانياً وأنظمة يحكم من خلالها الشعب دون أن يراعي ذمة أو ميثاقاً أو قانوناً غير قانونه الذي وضعه وهذا مانلمسه في قول الكواكبي
( المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم بهواه لا بشريعتهم )
ولم يكتف الأدباء بكشف طبيعة المستبد ، إنما علموا على فضح جرائمه وممارساته الوحشية التي أثقل بها كاهل الشعب ، فلم ينج من مخالب غدره أحد حتى أولئك الرجال الذين حاولوا أن ينشروا العدل والخير في المجتمع ومنهم مدحت باشا الذي لم يرتكب إثما ، ولم يدبر مؤامرة ضد السلطان ، إنما هي نصيحة فيها خير الناس ، ضاق بها صدر السلطان ، فأمر بقتله
قال خليل مطران :
يايوم قتل بزرجمهر وقد أتوا فيه يلبون النداء عجالا
سخط المليك عليه إثر نصيحة فاقتص منه غواية و ضلالا
وأمام هذا الدور المتعاظم للأدباء في فضح طبائع المستبدين وجرائمهم لجأ المستبد إلى مطاردتهم والتنكيل بهم مابين سجن ونفي لأنه يعلم أن الكلمة هي البدء ويعلم أنه إن أراد اغتيال الكلمة فلابد من اغتيال أربابها ، فها هو محمد حسين هيكل يرسم لنا صورة المستبد بقوله :
( يعمد الباطشون إلى تقييد حرية القول والكتابة وفي سبيل هذا التقييد يصلون أرباب الأقلام حربا لارحمة فيها ولا هوادة ، فمن إرهاق إلى سجن إلى نفي وتشريد )
ولأن المستبدين يدركون أنّ فرض سطوتهم وإحكام سلطتهم لاتتم إلا بإبقاء الرعية تحت سيطرتهم وسلطتهم ، لا تصدر عنهم أنة ولا شكوى ، لا تلوح لديهم بارقة أمل في الحرية ولايتم لهم ذلك إلا بمحاربة العلم والعلماء ، لأنهم يدركون أن هؤلاء يشكلون خطراً على ممارساتهم ، فيطاردونهم وينكلون بهم . وفي ذلك يقول الكواكبي :
( فكل ادارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل . والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم )
إن المستبد في خوف دائم من أثر الأقلام الحرة ، وما تشيعه بين الناس من أفكار الحرية والعدل والمساواة ، فهو يعمد إلى تحطيم الأقلام وإذلال نفوس أصحابها . وهو ماعبر عنه محمد حسين هيكل بقوله :
( ولا يطمئن لهم خاطر إلا إذا اطمأنوا إلى أنهم حطمو تلك الأقلام إلى غير عودة إلى الكتابة . وأذلو نفوس حملتها إذلالا لا قومة لهم من بعده )
ولم ينس الأدباء أن الجماهير مسؤولة إلى حد كبير عن ممارسات الاستبداد ، بما تظهره من سلبية وخنوع تجاه كل ما يحيق بها ، ولا ترفع صوتها ضد هذه الجرائم ، بل ولا تحاول أن تشفع للوزير العادل لحظة إعدامه ، كما عبر عن ذلك خليل مطران حين قال :
ناداهم الجلاد هل من شافع لبزرجمهر فقال كل لا،لا
كما أبرز الأدباء ظاهرة خطيرة تتصل بسلبية هذه الجماهير ، وهي إظهارها من المشاعر خلاف ماتضمر ، وذلك لخوفها من بطش المستبدين ، وهذا ما عبر عنه خليل مطران بقوله :
يبدون بشراً والنفوس كظيمة يجفلن بين ضلوعهم إجفالا
ولعلّ أخطر ما تنبه إليه الأدباء ، هو تعود الجماهير على الذل والهوان ، وسكوتها على جرائم الاستبداد بعد أن اعتادت طعم الذّل والظلم ، وهذا ما أدانه إبراهيم اليازجي حين قال :
ألفتم الهون حتى صار عندكم طبعاً وبعض طباع المرء مكتسب
وأطلق الأدباء صرخات الاستنكار لما آل إليه وضع الشعب ، فهو لم يكتف بالتعود على الظلم والذل ، أصبح يتعلل بالآمال الزائفة ، وقد استكان للقدر الذي وجد نفسه فيه ، وأصبح ينتظر الخلاص من عالم الغيب ، كما عبر عن ذلك إبراهيم اليازجي بقوله :
فيم التعلل بالآمال تخدعكم وأنتم بين راحات القنا سلب
وفي لجّة هذه المعركة أيقن الأديب العربي أن صرخاته لاتصل إلى سمع كلّ الناس فتوجّه إلى العلماء في كلّ أماكن تواجدهم ليذكرهم بواجبهم في تنبيه الوعي وحمل راية الكفاح وأمانة النضال وتحريض الشعب على المقاومة فهم الأخوة الكبار لكلّ واحد من العوام قال الكواكبي :
( والعوام صبية أيتام نيام لايعلمون شيئاً والعلماء هم أخوتهم الراشدون إن إيقظوهم هبّوا وإن دعوهم لبّوا )
نعم للكلمة دور فكيف إن كانت حرّة ينطق بها حرّ فستمسي رصاصة قاتلة للمستبدّ و زلزالاً يهزعروش الطغاة و ضمائر الشّعب معّاً لتدفعها إلى الثورة قال هيكل مبرزاً دور الكلمة :
( ونحن مانزال نرى ثمرات الأقلام منذ آلاف السنين الماضية هي التي تهزّ العالم حتى اليوم هزاّ )
و إلى جانب كل ذلك كان للأدب دور في تحريض الناس على المقاومة و مواجهة المستبد وقد سلكوا في سبيل ذلك مسلك مختلفة فمنهم من توجّه بدعوة صريحة إلى الشّعب لامتلاك القوة لردع المستبدّ الظالم الذي سيتمادى في ظلمة و سيزداد وحشية إن لم يواجهه قال الكواكبي:
(المستبدّ يتجاوز الحدّ ما لم ير حاجزاً من حديد فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظلم )
وكذلك دعا الأدباء أبناء الأمّة للاستعداد والنهوض لمواجهة أعباء الواقع والوثوب في وجه ظالمهم و مستعبدهم قال إبراهيم اليازجي:
فشمّروا وانهضوا للأمر و ابتدروا من دهركم فرصة ضنّت بها الحقب
وسلك فريق آخر من الأدباء طريقاً غير مباشر في تحريضهم الشّعب فحاولو أن يستثيروا النخوة والعزّة والكرامة التي ماتت في نفوس الرجال . فهذه إبنة الوزير وقفت في وجه المستبدّ وقفة عزّ وتحد في محاولة منها لتحدي الرجال علهم يقفون في وجه المستبدّ الطاغية فقال على لسانه خليل مطران :
ما كانت الحسناء ترفع سترها لو أنّ في هذي الجموع رجال
وفي ظلّ الضعف والاستسلام و الخنوع حاول بعض الأدباء أن يستحضروا تاريخ الأمّة المجيد تاريخ الآباء و الأجداد ليكون حافزا للأبناء و الحفدة في استعادة مجدهم وعزّهم وإيجاد مكان لهم تحت الشّمس
قال إبراهيم اليازجي:
ألستم من سطوا في الأرض واقتحموا شرقاً و غرباً وعزوا أينما ذهبوا
ومن بنوا لصروح العزّ أعمدة تهوي الصواعق عنها وهي تنقلب
وهكذا نرى أن الأديب العربي كان ابن راقعه و أن أدبه مرآة انعكست على صفحتها صور ذلك الواقع الذي سعى لتغييره فحمل راية النضال كاشفاً طبيعة المستبدّ فاضحاً جرائمه محرضاً على الثورة من خلال الكلمة الحرّة رديف السيف التي وقفت إلى جانب الطلقة في معركة الأمّة ، معركة الحق والعدل والخير .........