في نظرةٍ تأمليةٍ على العلاقات العربية التركية الممتدة لأربعة قرون خلت – رآها البعض علاقة هيمنة وتخلف , والبعض الآخر علاقة أخوة وتقدم – نرى أن العرب والأتراك تجاهلوا بعضهم البعض نتيجة تراكمات تاريخية وأيديولوجية كثيرة.
فقد رأى المحدثون العرب أن تأخرهم كان نتيجة الهيمنة العثمانية وعدم أخذها بأسباب التقدم من الحضارة الغربية التي كانت تخطو بخطى حثيثة نحوه . بينما رأى المحدثون الأتراك أن أحد أهم أسباب تخلفهم هو التعلق بالعرب الذين أثقلوا كاهل الإمبراطورية .
وعلى الرغم من أن هذه الصور ليست بالقطع صحيحة إلا أنها صور عالقة في الذهنين العربي والتركي على السواء . والسؤال : ماذا يجعل الأتراك اليوم يهتمون بالشأن العربي , ويندفعون باتجاه دول شمال أفريقيا ( العربية ) اندفاعاً قل نظيره خلال حكم حزب العدالة والتنمية ؟
ربما تكون اعتبارات مثل القرب الجغرافي والتداخل التاريخي أسباباً منطقية لهذا الاندفاع نحو البلاد العربية المنتفضة على أنظمتها السابقة . إلا أن تلك الاعتبارات لم تكن وليدة اللحظة بل كانت موجودة منذ تسلم الحزب الأصل لحزب العدالة والتنمية ( حزب الرفاه ) ومن بعده حزب الفضيلة مقاليد السلطة في تركيا . إلا أن الظروف الداخلية التركية آنذاك لم تكن كما هي عليه الآن , وبنفس الوقت تغيرت ظروف ومصالح الدول الإقليمية .
لقد حاول نجم الدين أربكان ( زعيم حزب الرفاه المنحل) ورئيس الوزراء الأسبق أن يقوم بنفس الخطى التي يقوم بها الآن رجب طيب أردوغان . إلا أن الظروف كانت مختلفة بالمطلق . فهيمنة الجيش على الحياة السياسية كانت كاملة تقريباً, والقوى العلمانية كان تأثيرها أكبر تحت حماية المؤسسة العسكرية . وعلى الرغم من زيارة أربكان لإسرائيل في محاولة منه لطمأنة العسكر عن عدم تخليه عن العلاقة الإستراتيجية بين إسرائيل وتركيا , إلا أن ذلك لم يكن مقنعاً لهم بعد تقاربه مع ليبيا وإيران ودول شرق آسيا الإسلامية .
كذلك كانت معاداة الأوساط القومية المتطرفة التركية للعرب لا تشجع لهذا التقارب في ذات الوقت الذي كانت تلك الأوساط ترى العلاقة الإسرائيلية التركية علاقة إستراتيجية . وقد عملت الصحف ومحطات التلفزة على تعميق هذه الفكرة , مما أدى إلى تعطيل أية محاولة جادة للتقارب بين العرب والأتراك . فالصحف التركية كانت تظهر العرب على أنهم يستخدمون الدين الإسلامي للإضرار بالأمن القومي التركي , ولهم مطامع في المياه التركية , ويثيرون الحركات الكردية المناوئة , ويدعمون الإرهاب ... كل ذلك في سبيل الدفاع عن إسرائيل أو إعجاباً بها أو تعاطفاً معها
حاول أردوغان منذ وصول حزبه ( العدالة والتنمية ) إلى السلطة عام ( 2002 ) أن يخفف من أثقال التاريخ , وأن يصل إلى معادلات تُلغي اللعب على متناقضات الجغرافيا لصالح استثمار مميزاتها دون أن ينفي ذلك وجود جزء من ارض تركيا وتوجهها أوروبياً . وحطم التناقض القائم بين العلمانية كطريقة للحكم والإسلام المعتدل وجعله أساساً لحرية الاعتقاد الذي ينادي به الدين الإسلامي أصلاً . وعمل اردوغان على إعلاء مفهوم قوة الاقتصاد فوق كل الاستثناءات دون الاكتراث بالعلاقة مع إسرائيل , التي كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بها ( 1949 ) . وقد كانت تلك العلاقة أحد أهم الأسباب التي أدت إلى برود العلاقات العربية التركية , ولا يخفى على المتتبعين حنق تركيا من العرب لتأييدهم اليونان في قضية قبرص .
وسعى أردوغان في بداية حكمه أيضاً إلى توطيد العلاقات العربية التركية – ضمن إطار المصالح التركية – للحصول على النفط بأسعار دون العالمية , ولفتح أسواق جديدة أمام النمو المتصاعد للاقتصاد التركي . إلا أن ذلك بقي في إطار محدود وبعيد عن فكرة الهيمنة على المنطقة .
ومع ازدياد تفسخ العلاقات العربية ووصولها إلى أسوأ مرحلة في التاريخ الحديث , وغياب أي دور لهم على الساحة الإقليمية , ووصول العلاقات الإسرائيلية التركية إلى مفترق طرق قد يؤثر سلباً على العلاقات الإستراتيجية بين البلدين , ومع تزايد القلق الإسرائيلي مما يجري في البلدان العربية المجاورة , وخروج اليونان ( المفلسة ) من دائرة الصراع التقليدي بينها وبين تركيا , وحاجة حلف شمال الأطلسي لمد منظومة الصواريخ الأوروبية في العمق التركي , وغياب الدور الإيراني عن استثمار التغيرات الحاصلة في المنطقة . كل ذلك هيأ المناخ الملائم لأردوغان ليعزز الهيمنة التركية على دول شرق البحر المتوسط بتعاون أمريكي أوروبي وإعطاء تلك الدول للحليف القديم الجديد دوراً أكبر لتمرير السياسات الغربية في المنطقة .
إن حقائق الاقتصاد أصبحت المتحكم الأول في العلاقات الدولية والإقليمية , وخاصة مع دولة عرفت معنى السيطرة على أراضي الغير لأربعة قرون مضت . ويبدو أن المعادلة التي ربطت العلاقة التركية الإسرائيلية عبر عقود خلت لن تستمر طويلاً . فتركيا أتقنت اصطياد الفرص واستثمارها من أجل تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية