يوم ولدت في 21 آذار(مارس) 1923
في بيت من بيوت دمشق القديمة, كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادة.. و كان
الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء.
الأرض و أمي حملتنا في وقت واحد..و وضعتنا في وقت واحد.
هل كانت مصادفة يا ترى أن تكون ولادتي هي الفصل الذي تثور فيه الأرض
على نفسها, و ترمي فيه الأشجار كل أثوابها القديمة؟ أم كان مكتوباً علي أن
أكون كشهر آذر, شهر التغيير و التحولات؟.
كل الذي أعرفه أنني يوم ولدت, كانت الطبيعة تنفذ إنقلابها على الشتاء..
و تطلب من الحقول و الحشائش و الأزهار و العصافير أن تؤيدها في
إنقلابها..على روتين الأرض.
هذا ما كان يجري في داخل التراب, أما في خارجه فقد كانت حركة المقاومة
ضد الإنتداب الفرنسي تمتد من الأرياف السورية إلى المدن و الأحياء
الشعبية. و كان حي (الشاغور), حيث كنا نسكن, معقلاً من معاقل المقاومة, و
كان زعماء هذه الأحياء الدمشقية من تجار و مهنيين, و أصحاب حوانيت, يمولون
الحركة الوطنية, و يقودونها من حوانيتهم و منازلهم.
أبي, توفيق القباني, كان واحداً من هؤلاء الرجال, و بيتنا واحداً من تلك البيوت.
و يا طالما جلست في باحة الدار الشرقية الفسيحة, أستمع بشغف طفولي
غامر, إلى الزعماء السياسيين السوريين يقفون في إيوان منزلنا, و يخطبون في
ألوف الناس, مطالبين بمقاومة الإحتلال الفرنسي, و محرضين الشعب على الثورة
من أجل الحرية.
و في بيتنا في حي (مئذنة الشحم) كانت تعقد الإجتماعات السياسية ضمن
أبواب مغلقة, و توضع خطط الإضرابات و المظاهرات و وسائل المقاومة. و كنا
من وراء الأبواب نسترق الهمسات و لا نكاد نفهم منها شيئاً..
و لم تكن مخيلتي الصغيرة في تلك الأعوام من الثلاثينيات قادرة على وعي
الأشياء بوضوح. و لكنني حين رأيت عساكر السنغال يدخلون في ساعات الفجر
الأولى منزلنا بالبنادق و الحراب و يأخذون أبي معهم في سيارة مصفحة إلى
معتقل (تدمر) الصحراوي..عرفت أن أبي كان يمتهن عملاً آخر غير صناعة
الحلويات..كان يمتهن صناعة الحرية.
كان أبي إذن يصنع الحلوى و يصنع الثورة. و كنت أعجب بهذه الإزدواجية فيه, و أدهش كيف يستطيع أن يجمع بين الحلاوة و بين الضراوة..
1970
عدل سابقا من قبل الكنغ في الثلاثاء 3 أغسطس - 23:28 عدل 1 مرات