لهذه الأسباب تعرضت المسلسلات الرمضانية المغربية لهجوم اعلامي شديد
محمد بنعزيز
لم يسبق للبرمجة الرمضانية على التلفزة المغربية أن تعرضت لمثل هذا الهجوم الإعلامي الشديد. تزامن رمضان مع العطلة الصيفية، بالتالي كان جل المغاربة متفرغين للمشاهدة. لكن الخيبة كانت شديدة، حتى أن حماتي تخلت عن تعاقدها مع طفلتي. تعاقد ينص على تشاهد الطفلة الرسوم المتحركة قبل الإفطار بينما تتفرج الجدة بعد آذن المغرب. في رمضان 2011 صارت حماتي تشاهد الرسوم المتحركة مع طفلتي أثناء الإفطار وحتى آذان العشاء. تشاهد (فلة) وهي النسخة الخليجية لباربي.
كان تنازل الحماة عن مشاهدة الفكاهة الرمضانية أمرا دالا على الوضع.
ما السبب؟
بسبب غياب الثقافة تتم السخرية من الطبيعة، من 'خليقة الله'، ولتسهيل ذلك يتم اختيار ممثل له صفة بدنية معينة لجعل شكل جسمه موضوعا لإضحاك المتفرجين. ففي حلقة يتم السخرية من البدين الأكول البليد. في حلقة أخرى تتم السخرية من النحيف الضعيف. في حلقة أخرى تتم السخرية من الأصلع الذي يريد زرع الشعر. لهذا يطلب الكاستينغ ممثلين مثل: عزيز العلوي وجواد السايح وإبراهيم خاي.
هذا ممثل لا يتماثل معه المتفرج ولا يتمناه المتفرج لا ولدا لا صهرا... تقيأ أحد أقاربي حين كان جاد السايح (الكميشة) يقوم بتعويج فمه.
حين لا تكون السخرية من شكل الجسد يسخر من لكنة المناطق، خاصة الجبلي المقفح أو محماد الشلح الشحيح الذي ينتعل صندلا تطل منه أصابعه، أتحدى كتبة هذه السيتكومات أن يتخلصوا من هذا في العام القادم.
بدل بناء كوميديا الموقف التي تتطلب جهدا، تتم السخرية من شكل الجسم وهذا مس بالكرامة الإنسانية.
سيكون حظ الفرجة العائلية جيدا إن لم يكن بين أعضائها سمين أو أصلع أو قصير... أما إذا كان فالضحك يصبح خطرا والفرجة تتوقف لتصبح شماتة بما خلق الله. فحينذاك سيصبح شكل المتفرج خليقته - موضوعا للسخرية. القاعدة هي: نضحك من النكتة حين لا تكون علينا.
هذا على صعيد الكاسينغ، وبعده يبدأ تمثيل 'شد فيّ نشد فيك'. وهذا ارتجال في مجمله. نرى الممثل يتصابى ينظر إلى الكاميرا ويخاطبنا، يضحك كل مرة ليضحكنا...
في الارتجال، الممثل يتصرف على هواه. هل يستطيع مخرج 'الزين في الثلاثين' أن يدعي أنه يدير الممثل dirige l'acteur محمد الخياري؟
يزداد الارتجال حين يكون السيناريو ضعيفا أو لا وجود له أصلا (مازال حزب اللاسيناريو يعمل). وهذا طبيعي حين تتكون ورشة الكتابة من كتبة لم يعرف لهم أحدا قصة ولا مقالة ولا رواية ولا زاد معرفي ليقدمه للمشاهد. (في سلسلة حنا جيران أستثني الحلقات التي كتبتها بشرى إيجورك من هذا الحكم.) للإشارة، كتب رئيس المجلس الأعلى للحسابات أحمد الميداوي - وقضاته المحققون - في تقريره 2009 عن التلفزة 'غياب دعوة عامة إلى وضع السيناريوهات، خلافا لأحكام المادة ال13 من دفتر التحملات، والتي تنص على تعزيز المنافسة الحرة في الميدان السمعي -البصري، كما أن معظم المسرحيات الهزلية (Sitcom) والمسلسلات لم تتم قراءتها ولا تقييمها ماليا من طرف اللجن المكونة لهذا الغرض، الشيء الذي انعكس سلبا على جودتها، فضلا على عدم تسمية أي لجنة مكلفة بقراءة السيناريوهات...
يزعم الممثل المدمن على الارتجال أنه ممثل ولد فكاهيا، بالفطرة 'من عند الله'، وبالتالي لا حاجة له للمعرفة. ممثل مبتذل، ممثل كريه، ممثل يستخدم بشكل غير مكبوح، كليشيهات مسرحية بالية، يمطط الأداء بتكلف، يحاول بصعوبة فائقة أن يكون مضحكا... كلما بذل جهدا أكبر اتضح أن منهجه أجوف... يقع في البنية المبتذلة والعقيمة، سمسار يتملق الجمهور... يحاول أن يكون مضحكا... يستخف بالجمهور... يعتبر التهريج فنا... ما هي النتيجة؟ ممثل مدّع على نحو لا يطاق تكون جاذبيته قصيرة الأجل. (تاركوفسكي النحت في الزمن ص 145).
وهذه صورة التصقت بعدد كبير من الممثلين المغاربة. لا يعترفون بتوجيهات المخرج المأجور لديهم. لذا يتصرفون على هواهم، يتقمصون ذواتهم وليس الشخصية في السيناريو.
ممثل يبالغ يصرخ يتشنج يجتهد ليكون مسليا ومضحكا... يريد ان يضحكنا 'بزز'.... يشرح ستانيسلافسكي 'هذه قوالب جاهزة مستنزفة يقبلها المتخلفون فنيا ويظنها المتفرج البسيط تمثيلا بينما القسم الأعظم من هذه القوالب 'مهين بما فيه من رداءة الذوق وضآلة الاستيعاب وسطحية العلاقة بالشعور الإنساني أو ببساطة بما فيها من غباء'.
غباء بلادة ضحك على الذقون... هذه هي التعاليق لدى المتفرجين والإعلاميين.
ما الذي يزعجني في هذا؟
قبل الإجابة أشير إلى مشكل مرتبط بمصلحة شخصية تمنع الكثيرين من التعبير عن آرائهم. حين حررت هذا المقال تساءلت: هل سأنشره رغم أني كتبت سيناريوهات ذات محتوى سوسيولوجي وقيمي قدمت أحدها (الزكال AZAGGAL) للقناة الثانية وسأقدم غيره قريبا؟
وهي سيناريوهات مبنية على قصص وروايات تطلبت كتابتها سنوات كثيرة.
سبق لأحد الفنانين أن قال لي:
'أنت معلم لا تُصوّر طرف الخبز من الأفلام لهذا تتكلم بهذه الجرأة'. واقترح علي أن أقدم سيناريوهاتي باسم مستعار.
يعتقد المتحدث أن التعبير بصراحة عن موقف فني هو شبهة خطرة سيعرض مصلحة صاحبه المقبل على التعامل مع التلفزة إلى انتقام وإقصاء. ومن الأفضل الصمت أو التملق والتزلف. وقد مسح اسمي من لائحة أصدقائه في الفايسبوك من باب الحذر.
هذه عقلية مدمرة للفن.
بل حتى في السياسة، إذا كان للملك مستشار يتملقه فهو يضره ولا ينفعه. يتسبب في قطع صلته بالواقع.
إذن: هل أمسح هذا المقال أم أنشره؟
فكرت في الأمر مطولا، وخلصت إلى أن النقد الفني ضرورة لتطور الإنتاج التلفزي. وحرية التعبير شرط أساسي للتقدم الفن.
إبداع الفنان في حريته وليس في مصالحه التجارية.
المقال أمامكم. أفتخر أني معلم وعاشت المدرسة المغربية حصنا للكرامة.
أعود للسؤال. أزعجني أمران:
الأول خسارة سياسية خطيرة، وهي أن تراجع متابعة برامج التلفزة الوطنية يؤدي إلى هشاشة الصلة بين المواطن والدولة، بل وإلى تراجع المشترك بين المواطنين الذي يفترض أن يستمتعوا بكوميديا تضيء حياتهم، ويتناولوها جميعا بالتعليق صبيحة اليوم الموالي فيتوحدوا. وحدة الصف أمر جلل هذه الأيام.
الأمر الثاني، هو نزع الشرعية عن الفن والفنان. فالمغربي عندما يسمع فنان يبتسم يجانب فمه. فالخواء والبؤس الذي نراه يجعل المتفرج يستهين بدور الفن في نهضة الشعوب. هذا يشعرني بالأذى الشديد، بل بالخيبة، وقد بنيت حياتي على حلم أن أكون مبدعا، وخصصت لذلك وقتا وموارد كبيرة. لأن الممارسة الفنية تحتاج إلى تكوين مسبق طويل وكثيف قبل دخول الميدان Langue formation souterraine .
دون هذا التكوين العميق لا فن.
طيب، كيف نخرج من الوضع الحالي؟
لابد من معالجة هذين الأمرين معا، لأن الكوميديا ضرورية لفهم ذواتنا، إنها أفضل السبل لتحقيق الكاتارسيس أي التطهير (catharsis). وهي تربية فنية ترقى بالذوق.
كيف نحقق ذلك؟
أولا أن نصور سيناريوهات ذات محتوى أعدت على نار هادئة، مثل طاجين، وليس سيناريوهات عاجلة نيئة مثل بانيني. ثانيا، أن نقتنع أن للفن والثقافة دور في النهضة والتقدم. في تكوين المواطن الذي سيبني الجبهة الداخلية للمغرب، مواطن واعي قادر على التعامل بحكمة مع الاضطرابات السياسية (تطرف هويات مزعزعة استقطاب شديد وتفكك دول) والأزمات الاقتصادية (توقف نمو وبطالة وجوع) التي تضرب العالم، والتي ستجعل الأيام القادمة صعبة. بل أكثر صعوبة.
يجب أن ينهض الإعلام الوطني بدوره. هذا أمر لا مزاح فيه.