محمود 66 _
الجنس :
عدد المساهمات : 13454
العمر : 42
| دمشق في العهد الأموي |
| منذ السّنوات الأولى للفتح الإسلامي (14هـ/635م) أخذت المدينة تتحوّل تدريجياً إلى مدينة عربيّة إسلاميّة، وحلّ أمراء العرب وكبراؤهم في الدّور والقصور التي أخلاها اصحابها البيزنطيون من حكّام وقوّاد. فتوزّع المسلمون في جميع أنحاء المدينة، ولم يكن لهم وقتئذ أحياء خاصّة بهم وأخرى للمسيحيين، كما سيحدث فيما بعد. ودليلنا على ذلك أن ابن عساكر يعدّد دوراً للصّحابة كانت في محلّتي باب توما وباب شرقي، وهما من الأحياء المسيحية منذ قرون. كما أن المسلمين شاركوا المسيحيين في المعبد القديم، فأصبح يضمّ كنيسة للنّصارى في الجانب الغربي، ومسجداً للمسلمين في الجانب الشرقي، حيث أقيمت طقوس العبادتين ضمن بنائين متجاورين يجمعهما سور خارجي واحد. وظلّت هذه الحال من التجاور بين العبادتين أكثر من نصف قرن، إلى أن شرع الوليد في تحقيق مشروعه المعماري الضخم، فبنى الجامع الاموى الذي سنفصّل في ذكره لاحقاً بإسهاب وافٍ. والغالب على الظنّ أن المسلمين في لعههد الاموى قد اكتفوا بهذا الجامع الكبير، واقاموا مُصلّى للعيدين وفق تقاليد السنّة خارج المدينة، حيث يوجد جامع المصلّى الكائن في محلّة للميدان اليوم. وكان يخرج إليه يزيد بن الوليد يوم العيد في صفّين من الجند شاكّي السّلاح. ثمّ أخذوا في التجمّع حول الجامع الأموي وإقامة المباني والقصور والمحالّ العامّة، في السّاحة الواسعة المحيطة بالمعبد القديم والتي بُدئ بتخصيصها للأغراض العامّة منذ العصر البيزنطي. فشيّد معاوية داره التي عُرفت بدار الإمارة وبالخضراء أيضاً، نسبةً إلى القبّة الخضراء التي كانت تعلوها، وكانت إلى جوار الجدار الجنوبي للجامع، تتصل به بباب خاص. ويروي ابن عساكر مؤرّخ دمشق في القرن السادس الهجري أن "معاوية بناها بالطوب، فلمّا فرغ منها قدم عليه رسول ملك الرّوم فنظر إليها، فقال معاوية: كيف ترى هذا البُنيان؟ قال: أمّا أعلاه فللعصافير، وأمّا أسفله فللفئران. قال: فنقضها معاوية وبناها بالحجارة". هذا جلّ ما نعرفه عن أوّل بيت عربي في دمشق. وتشير الرّوايات إلى أنّ للدار جناحاً خاصّاً بأهل الخليفة، وجناحاً آخر يستقبل فيه رجال الدّولة ويتناول طعامه فيه، ويخرج منه للصّلاة في الجامع. وتحوّلت الدّار بعده إلى دار للمُلك يقطنها مَن يتولّى الخلافة من بني أميّة، ثمّ تهدّمت في الغزو العباسى وأصبح في مكانها دار للشرطة وضرب النّقود، كما شاهد ذلك الرحّالة المهلّبي في القرن الرّابع الهجري (العاشر الميلادي). ثم يأتي عليها حريق عام 461هـ/1068م مع الجامع الأموي فتزول آثارها نهائيّاً، ويتحوّل مكانها منذ عام 643هـ/م حتى عصرن إلى سوق للصناعة . وكانت دار عبد العزيز بن مروان وابنه الخليفة عمر بحذاء جدار الجامع الشمالي مكان المدرسة السّميساطيّة اليوم.
ونعرف قصراً كان لهشام بن عبد الملك، في مكان المدرسة المجاهديّة داخل باب الحرير، أي في سوق القلبقجيّة، وقصوراً أخرى بنيت خارج السور، أحدها يُنسب إلى الحجّاج بن عبد الملك، وقد أطلق اسمه على الحيّ الذي نشأ بعد ذلك حول هذا القصر، وبالقرب منه قصر عاتكة بنت يزيد، ويسمّي الناس اليوم حيّاً من أحياء دمشق بقبر عاتكة (محوّراً على ألسنة العبّاسيين عن: قصر عاتكة). على أن كل هذه القصور زالت واندثرت وتعذّر علينا أن نعرف عنها شيئاً، بخلاف قصورهم العديدة التي شيّدوها خارج العاصمة، في بادية الشام (سورية والأردن) وفي بعض أنحاء لبنان (عنجر) وفلسطين، والتي تمكن المنقّبون من دراسة ما فيها من هندسة وتنسيق رائع، وما حوته من آثار الترف والبهجة المتجلّية في زخارف الفسيفساء والرسوم الملونّة (الفريسك) والنقوش الحجرية المتقنة. وهذه القصور أكثر من أن تعدّ، ولكننا نذكر منها: قصر سيس، قصر عنجر، قصرالحيرالشرقي العربى قصر الرّصافة، خربة المفجر، الخرّانة، المشتى، قصر ابن وردان قُصير عَمرة، قصر الأزرق، القصر الأبيض. كان الخلفاء والأمراء الأمويون يحرصون على إشادة هذه القصور للنزول فيها من وقت لآخر في الربيع والخريف، لينعموا بهواء البادية النّقي ويتكلّموا اللغة العربيّة الصافية، ثم إنهم كانوا يتخففون بهذا الارتحال من أعباء المدينة وتقاليدها الحازمة، وينالون شيئاً من متعة اللهو والصيد والمرح. ولقد عبّرت هذه المواضيع الزخرفيّة التي حفلت بها أكثر هذه القصور، كمناظر الصيد والرقص والموسيقا وغيرها، عن هذا النوع من الحياة المرحة. ومن الطبيعي ألا تنطبق هذه الصفات على سائر الأمراء والحكام الأمويين، لا سيّما مَن عُرف منهم بالجدّ والدّأب، كمُعاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك وعمر بن عبد العزيز، الذين وطّدوا أركان الدولة وواصلوا أعمال الفتوح، أو مالوا إلى التقشّف والزّهد. فأكثر هذه القصور تُنسب إلى هشام ويزيد وأولاد عبد الملك، الذين طال حكمهم، واشتهروا بميلهم إلى الإنشاء والتعمير. ويروي المؤرخون أن الناس كانوا إذا التقوا ببعضهم في أيّام الوليد وهشام، كان حديثهم عن العمارة وفنون البناء. والذي يمكن لنا الخروج به بثقة من خلال مصادر المؤرّخين، أن مدينة دمشق في العهد الأموي كانت ترفل بأبدع حلّة وأجملها بعد أن نعمت بالمركز الممتاز، والخير العميم، والازدهار الاقتصادي. ويحدّثنا المؤرخون عن أحواض المياه والنواعير والسّقايات التي كانت منبّثة على أطراف الشوارع، وعلى أبواب المباني العامّة، وفي الأسواق والسّاحات، وعند أبواب المدينة. ولقد عدّد ابن عساكر عشرين منها كانت باقية إلى عهده، يرجع أكثرها إلى عصر بني أميّة. ويُنسب إلى الوليد (معمار بني أميّة) عنايته ببناء المُستشفيات، فبنى بدمشق البيمارستان (والكلمة فارسية: بيمار-استان) عند الزاوية الجنوبية الغربية للجامع الأموي، عُرف فيما بعد بالعتيق، ثم جُدّد في عهد اتابكة السلاجقة وسُمّي بالدُّقاقي نسبة للأمير شمس الملوك دُقاق بن تُتُش بن ألب أرسلان الذي حكم دمشق عام 488هـ/1095م. ومن المباني الهامّة دار الخيل التي بُنيت أمام قصر الخضراء إلى الغرب من سوق الصاغة. وأخيراً فإن استتباب الأمن وما حازت عليه دمشق بكونها عاصمة الدولة من رخاء وازدهار، كان لابُدّ من أن يؤدّي إلى اتّساع المدينة. وبدأت منذ ذلك العهد تنشأ أحياء سكنيّة خارج الأسوار أخذت تنمو وتكبر كلّما ساعدتها الظروف (يذكر منها ابن عساكر: قينية والقطائع ولؤلؤة الصغرى والكبرى والمنيبع). كما ظهرت في أطراف المدينة وضواحيها مراكز سكنيّة عُرفت بمنازل القبائل، وامتدّ البناء على ضفاف بردى وسفوح قاسيون، وظهرت الجواسق (المقاصف) والطوارم (جمع طارمة: بناء خشبي كالطيّارة في لغة عصرنا، وكان من مصطلحات البناء حتى القرن التاسع عشر: الطرمة). وفي أيام يزيد بن مُعاوية شُقّ نهر يزيد فساعد هذا النهر على امتداد الخضرة والعمران إلى أعالي السّفح، فضلاً عن إحياء عدد من القرى في الشمال الشرقي من دمشق، وإرواء الجواسق والمنازل التي أقيمت على ضفافه، والتي سنعدّد بعضاً منها. ولقد تخرّبت هذه المنازل والأرباض في الفتن والحروب التي تلت العهد الأموي، قال ابن عساكر بشأنها: "وقلّ موضع حُفر فيه إلا وُجد فيه أثر العمارة من سائر أطراف البلد". وذكر منها في الجنوب: الشاغور (التسمية آرامية)، والمنية (في الميدان)، وقصر حجّاج، وعايلة وعويلة (عند القدم). وفي الغرب القنوات، وقينية، ولؤلؤة الكبرى، ولؤلؤة الصغرى، وصنعاء، والنّيربان، والمزّة. وفي الشمال بيت لهيا، والسبعة أنابيب (عند القصّاع اليوم)، والفراديس. وكان هناك ميدانان عامّان Hyppodrome، أحدهما في الجنوب وهو (ميدان الحصى)، والآخر في الغرب ويُعرف بالمرج الأخضر، حيث أقيمت مدينة المعرض الدولي (القديم) في عصرنا عام 1953 وبقيت به إلى الأمس القريب. وكانت تقام فيهما حفلات لسباق الخيل والفروسية التي أغرم بها الأمويّون وخاصّة عبد الملك والوليد. وهكذا كانت هذه الرياض الغنّاء والجواسق البديعة التي تحيط بدمشق تفيض بالحيويّة والنشاط، تغنّى بها شعراء كثيرون وألهمت الفنّانين والصنّاع، فظهر أثر ذلك في إنتاجهم الذي نجد له مثالاً حيّاً في فُسيفساء الجامع الأموي الرائعة. وهنا يمكننا أن نقرأ وصفاً حياً لدمشق وطبيعتها آنذاك، كتبه الرّحالة المهلبي الذي زار دمشق في القرن الرابع الهجري: "وبظاهر دمشق وادي البنفسج ونهر بردى يشقه، مكان مملوء بشجر السّرو لا تصل الشمس إلى أكثر أرضه، وبدمشق عدّة ألوان من الورد، منها أفر إبريز، وأسود، وسُمّاقي، وورد موجّه، للورقة لونان من خارجها وداخلها، وليس الزهر على وجه الأرض ببلد أكثر منه بدمشق". ولابدّ أخيراً لاستكمال البحث من ذكر المقابر التي أحدثت خارج أبواب المدينة، فلقد اشتهر منها ثلاث: الأولى مقبرة باب توما في الشرق، والتي تُعرف اليوم بالشيخ رسلان، والثانية عند الباب الصغير في الجنوب وتضمّ قبور عدد من الصحابة والخلفاء الأمويين، ثم مقبرة باب الفراديس في الشمال. | |
|
الثلاثاء 30 أغسطس - 12:32 الامل الدافئ
الجنس :
عدد المساهمات : 3091
العمر : 34
| |