سبارتاكوس: محرر العبيد
عندما تقف عند مبنى الكوليزيوم أشهر المعالم الأثرية في روما. وتتأمل
طبقاته الأربع الدائرية والذي أقامه الإمبراطور فسباسيان عام 72 ميلادية.
ربما لا يخطر ببالك أن ساحته الداخلية قد شهدت مصرع أكثر من ألفين من
المصارعين ألقي بهم بأمر أباطرة الرومان للمشاركة في عروض تنتهي في النهاية
بموت المهزوم. ولعلك لن تنسى ما ارتوت به ساحة الألعاب من دماء شهداء
المسيحية الأولى الذين أكلت السباع المفترسة أجسامهم وهم أحياء بداية من
عصر نيرون حتى توقفت في عام 404 بأوامر الإمبراطور هونوريوس.
وربما لا نتذكر ما كان يجري من مصارعي العبيد - وهم بيض من أسرى الحروب -
إذ يصارعون بعضهم بعضاً ليسعد بها الطغاة ونساؤهم ورجالهم حتى كانت أحداث
ثورة العبيد التي قادها سبارتكوس...!
كانت البداية عندما أنشأ لنتونس بتياتس مدرسة للمصارعين في كابوا... رجالها
من الأرقّاء أو المجرمين المحكوم عليهم, ودربهم على صراع الحيوانات أو
صراع بعضهم بعضاً في حلبة الصراع العامة أو في البيوت الخاصة, ولم يكن
الصراع ينتهي حتى يقتل أحد المصارعين. وحاول مائتان من هؤلاء المصارعين أن
يهربوا, ونجح منهم ثمانية وسبعون وتسلحوا واحتلوا أحد سفوح بركان فيزوف,
واختاروا لهم قائداً من أهل تراقيا يدعى سبارتكوس, وأصدر هذا القائد نداء
إلى الأرقاء في إيطاليا يدعوهم إلى الثورة. وسرعان ما التفّ حوله سبعون
ألفا ليس منهم إلا من هو متعطش للحرية والانتقام. وعلمهم سبارتكوس أن يصفوا
أسلحتهم وأن يقاتلوا في نظام أمكنهم به أن يتغلبوا على كل قوة سيطرت عليهم
لإخضاعهم. وملأت انتصاراته الرعب في قلوب أثرياء الرومان الذين كانوا
يسعدون من قبل بمقاتل المصارعين, وملأت انتصارات الأرقّاء قلوبهم أملاً
فهرعوا إلى سبارتكوس يريدون الانضواء تحت لوائه. وبلغوا من الكثرة حدّاً
اضطر معه أن يرفض متطوعين جدداً بعد أن بلغ عدد رجاله مائة وعشرين ألفاً إذ
لم يكن يسهل عليه أن يعنى بأمرهم مع زوجاتهم وأبنائهم.
وهكذا اكتمل تحت إمرة سبارتكوس جيش استطاع أن يهزّ به روما وأباطرتها.
الحرب ضد روما
سار سبارتكوس بجيوشه صوب جبال الألب وهو يستهدف أن يعود كل رجل إلى بيته
بعد أن يجتاز هذه الجبال, ولكن أتباعه لم يكونوا متشبعين مثله بهذه العواطف
الرقيقة السلمية التي تبحث عن الأمن والأمان ولا تبغى إراقة الدماء.
فتمرّد الرجال على قائدهم, وأخذوا ينهبون مدن إيطاليا الشمالية ويعيثون
فيها فساداً.
وأرسل مجلس الشيوخ قوات كثيرة بقيادة القنصلين عام 72 ق.م لتأديب العصاة.
والتقى أحد الجيشين بقوة منهم كانت قد انشقت على سبارتكوس وأفنتها عن
آخرها. وهاجم الجيش الثاني قوة العصاة الرئيسية فهزمته وبددت شمله. ثم سار
سبارتكوس بعدئذ صوب جبال الألب والتقى في أثناء سيره بجيش ثالث يقوده
كارينوس فهزمه سبارتكوس شر هزيمة. ولكنه وجد جيوشاً رومانية أخرى تقف في
وجهه وتسد عليه المسالك, فولّى وجهه شطر الجنوب وزحف على روما.
لم يكن أحد من جيش الأرقّاء - ولا سبارتكوس نفسه - يمكن أن ينسى تلك
الهزيمة الساحقة التي ألحقوها بجيش فارينيوس البالغ عدده ثلاثة آلاف
روماني, ولم يبق منهم حيّاً سوى جندي واحد أحضروه أمام قائدهم الذي سأله
وهو يهزّ في يده مقبضاً من العاج محفوراً على جانبه شارة موجهة إلى القائد
الروماني القتيل:
- أيها الروماني الحر.. .أتعرف ما هذه?
قال الجندي: إنها شارة مجلس الشيوخ التي سلمها إلى القائد, وهزّ سبارتكوس
قضيب العاج وقدمه إلى الجندي الروماني قائلاً:
(أنت الآن سفيرنا إلى مجلس شيوخكم أحملها إليهم بالرسالة التي أمليها عليك.
قل لهم إنهم أرسلوا كتائبهم ضدنا وأننا قد حطّمناها. ارو لهم أننا نحن
العبيد قد ضقنا بمجلس شيوخكم العفن وبروماكم العفنة التي أغرقتكم بالثروة
التي اعتصرتموها من دمائنا وعظامنا. قل لهم أي جماعة فاسدة أنتم, وإلى أي
فوضى قذرة قد أحلتم الحياة! إن مواطنيكم يعيشون على دماء الضحايا ويمضون
أيامهم في ميادين السباق وساحات المصارعة. أنتم تقتلون حبّاً في القتل,
ومتعتكم الرقيقة هي رؤية الدماء تتدفق وقد شيّدتم عظمتكم على سرقة العالم
بأسره. الآن انتهى كل هذا, قل لمجلس شيوخكم أن يبعث بقواته لقتالنا وسندمّر
هذه الجيوش كما دمّرنا هذا الجيش. وسنسلّح أنفسنا بأسلحة الجيوش التي
ستبعثون بها إلينا. إننا سنتقدم في كل إيطاليا وسينضم إلينا كل العبيد. وفي
يوم من الأيام, سنهاجم مدينتكم الخالدة ولن تبقى خالدة حينذاك. سنحطّم
أسوار روما وندخل مجلس شيوخكم وننتزعهم ليقفوا عراة ونحاكمهم كما حاكمونا).
هذه كل رسالتي إلى مجلس شيوخكم احملها إليهم, وقل لهم إنها من عبديدعى
سبارتكوس.
سبارتكوس ضد إمبراطورية
كان نصف الأرقاء في إيطاليا متأهبين لمساندة الثورة, ولم يكن في وسع أحد في
العاصمة نفسها أن يتنبأ متى تنشب هذه الثورة في بيته بعد الانتصارات التي
حققها جيش سبارتكوس. وكانت تلك الطائفة الموسرة المترفة التي تتمتع بكل ما
في وسع الرق أن يمتّعها به. كانت تلك الطائفة كلها ترتعد فرائصها فرقا حين
تفكر أنها ستخسر كل شيء, السيادة والملك والحياة نفسها. ونادى الشيوخ وذوو
الثراء يطالبون بقائد قدير, ولكن أحداً لم يتقدم لهذه المهمة, فقد كان
القواد كلهم يخافون هذا الزحف الجديد العجيب. ثم تقدم كراسوس آخر الأمر
وتولى القيادة, وكان تحت إمرته أربعون ألفاً من الجنود, وتطوّع كثير من
الأشراف في جيشه لأنهم لم ينسوا كلهم تقاليد الطبقة التي ينتمون إليها.
لم يكن يخفى على سبارتكوس أنه أصبح يقاتل إمبراطورية بأكملها, وأن رجاله لا
يستطيعون أن يصرفوا شئون العاصمة بل الإمبراطورية كلها إذا استولوا عليها.
فلم يعرج في زحفه إلى روما وواصل السير حتى بلغ ثورياى مخترقاً إيطاليا من
شمالها إلى جنوبها لعله يستطيع نقل رجاله إلى صقلية أو إلى إفريقيا, وظل
سنة ثالثة يصد الهجمات التي يشنّها عليه الرومان ولكن جنوده نفد صبرهم
وسئموا القتال فخرجوا عليه وعصوا أوامره وأخذوا يعيثون فساداً في كل مكان,
والتقى كراسوس بجماعة من أولئك الهاربين النهّابين وفتك بهم. وكانوا اثني
عشر ألفاً وثلاثمائة ظلوا يقاتلون إلى آخر رجل فيهم.
في هذه الأثناء, كان جند بومبي قد عادوا من إسبانيا وأرسلوا لتقوية جيوش
كراسوس, وأيقن سبارتكوس أن لا أمل له في الانتصار على هذه الجيوش الجرّارة,
فانقض على جيش كراسوس وألقى بنفسه في وسطه مرحّباً بالموت في وسط المعمعة,
وقتل بيديه ضابطين من ضباط القوة.
ولكن النهاية كانت قد اقتربت حين أصابته طعنة ألقته على الأرض وأعجزته عن
النهوض, وظل يقاتل وهو راكع على ركبتيه إلى أن مات وتمزّق جسمه حتى لم يكن
من المستطاع أن يتعرّف عليه أحد. وهلك معظم أتباعه وفّر بعضهم إلى الغابات,
وظل الرومان يطاردونهم فيها.
وتحقق النصر لكراسوس, واحتفالاً بانتصاره, صلب ستة آلاف من الأسرى على طول
الطريق من كابوا إلى روما, وتركت أجسامهم المصلوبة لتتعفّن على هذه الحال
شهوراً عدة تطميناً لجميع السادة وإرهاباً لجميع العبيد