قضية التسول ظاهرة تشغل بال جميع الشرائح الاجتماعية، لما لها من انعكاسات اجتماعية سلبية،.وفي محاولة لرصد واقع هذه الظاهرة من خلال اللقاء مع بعض المتسولين وزيارة أسرهم، لمسنا حكايا ومآسي تبدأ بمطرقة الفقر والحاجة وتسلط الآباء، وتنتهي بمهنة تدر أموالاً على ممارسيها.
مصير مجهول
واقع الحياة اليومي لسامر ورفاقه من بلدة السيدة زينب يتمثل في بدء رحلتهم اليومية منذ ساعات الصباح الباكر عند أحد المصانع في القابون، سعياً منهم وراء تأمين قوت يومهم ومتطلبات أسرتهم على الرغم من علمهم بأن ذلك الأمر مضن ومرهق ومخالف للأنظمة والقوانين، إلا أن ظروفهم أقوى وأقسى من العقوبات التي تترتب عليهم بسبب تسربهم من مدارسهم. مصير مجهول ومستقبل قاتم ينتظر سامر ومن معه الذين اتخذوا من أبواب المعامل والمصانع والمطاعم وإشارات المرور والشارع العام مواقع لهم ومكاناً لمصدر رزقهم، يمتهنون التسول المبطن المتستر في أشكال مختلفة فمنهم من يمسح الأحذية للناس ومنهم زجاج السيارات، وهناك آخرون يستعطفون السائقين لإعطائهم بعض النقود، فيما يحمل بعضهم بين يديه بعض العلكة أو البسكويت أو المحارم أو الدخان والقداحات وهذه حال عشرات الأطفال في الشوارع في كل مكان تقريباً.
أسئلة
أسئلة كثيرة ترددت في الذهن ونحن في طريقنا لمتابعة هذه الظاهرة السيئة، ترى من المسؤول عن هؤلاء الأطفال سامر وماهر وزياد ورفاقهم وهل هم ضحايا فعلاً أم هم محترفون ومن الذي دفع بهم إلى الشوارع.. الحاجة أم هناك من دفعهم للتشرد وألقى بهم في طرق الضياع. وهل هناك جهات تعمل على تشغيلهم لحسابها؟.. «البعث» التقت مع مجموعة من الأطفال الذين رووا مآسيهم وسردوا لنا حكاياتهم وتعرفنا على واقع بعض الحالات التي تعاملت معها الأسرة، كما استقرأنا آراء مختصين ومهتمين وباحثين حول هذه الظاهرة وواقعها وآثارها والمخاطر الناجمة عنها وكيفية مكافحتها.
أتعبهم الفقر
يقول الطفل ماجد 14 سنة من قرية العادلية ريف دمشق، وقد بدا منهمكاً بالعمل ويحمل في يديه صندوقاً من الكرتون، يوجد فيه بعض الأطعمة الغذائية للأطفال والبسكويت والقداحات والكبريت. قال أنا أذهب وأقف أمام أبواب المدارس وأحزن على حالي لأني تركت المدرسة ولست مثل الأطفال الذين يشترون مني البسكويت، أربح باليوم الواحد 200 ليرة، على الرغم من حب ماجد لمهنة البيع وهو في هذه السن يصر على أن أهله هم الذين دفعوه لهذا العمل لتأمين قوت يومه..
ويقول الطفل هاني 15 عاماً إن الظروف التي أمر بها وتمر بها أسرتي صعبة، حيث إن والدي متوفي وعندنا ثلاثة إخوة يصغرونني بالسن ووالدتي مريضة. الظروف والزمن والفقر رموا بي إلى الشارع دون دراسة ومستقبل سوى التسول والدوران طوال النهار أو مسح الأحذية أو بيع أي شيء، وفي بلدة عين ترما جلس عدنان 11 سنة على باب شركة وبجانبه صندوق فيه بوظة وعبوات من المشروبات الغازية ليبيع العمال، وقال إني أساعد أسرتي وأنا في هذه السن، فوالده تارك للمنزل ومتزوج من غير أمه ويسكن في منطقة بعيدة، وأمه تعمل في تنظيف المنازل، ظروف منزله جعلته وهو في سنه الصغيرة يبيع البارد لعمال الشركة وبعدها يذهب إلى حاويات القمامة ليجمع مواد البلاستيك ليبيعها لمساعدة والدته بمصروف المنزل. أما سمير 13 سنة، الذي على الرغم من صعوبة الحياة التي يعيشها إلا أن الابتسامة لا تفارقه، فقد روى لنا كيف جاءت له فكرة العمل في مطعم شعبي بالغوطة الشرقية حيث قال إنه ذات يوم جاء رجل يسكن في الغوطة وقال له لماذا لا تعمل عندي في المنزل وأعطيك 100 ليرة في اليوم فركضت خلفه وسلمني لزوجته خادماً لها وعتالاً لأولاده.. حدث يبلغ من العمر 10 سنوات وجدته يتسول في حرستا ويبيع الدخان الأجنبي بناء على طلب والده حيث إن أسرته مكونة من الأم المطلقة وستة إخوة ووالده لا يعمل والمصروف لم يعد يكفي في المنزل الذي يجلبه أخوه الكبير الذي يعمل في البناء فطلب منه والده التسول في منطقة السيدة زينب فهو يكره التسول والشحادة ولكنه عمل بها رغماً عنه، فوالده مازال يجبره على جلب المال ويضربه يومياً.
ماهي الحلول
بعد أن التقينا عدداً من الأطفال المتسولين نرى أن التسول يشكل وفق رأي الباحث التربوي، زهير خليل، ورأي مختصين تربويين، انتهاكاً لحقوق الأطفال وطريقاً مختصراً للانحراف ومخالفة للقوانين وخروجاً عن العادات والتقاليد والأعراف، ويرد هؤلاء انتشار هذه الظاهرة بشكل رئيسي إلى التفكك الأسري وضعف الروابط الاجتماعية على مستوى الأسرة مثل غياب أحد الوالدين وعدم التوافق بين دخل الأسرة ومتطلباتها، ويقول الأستاذ الدكتور نزيه شماص، أستاذ في علم النفس، إن خطورة هذه الظاهرة تكمن في أن هؤلاء الأطفال يعيشون أغلب أوقاتهم بعيداً عن الرقابة الأسرية وعن التوجيه والإرشاد الذي تقدمه الأسرة والمدرسة، وهذا ما يدفع الغالبية منهم إلى تعلم ثقافة الشارع والقائمة على تمجيد السلوك العدواني وحب المغامرة والانحراف وغيرها من السلوكيات غير المقبولة اجتماعياً والتي تكون بالنسبة لهؤلاء أعمالاً بطولية يتفاخرون بها فيما بينهم مثل السرقة والتسول وتعاطي الرذيلة وشرب الكحول والتدخين وتابع: إن انتشار الظاهرة يؤدي إلى نشوء جيل يعيش على الهامش في المجتمع ويقوم بأعمال مخالفة للقانون، ويدفع المجتمع لاحقاً ثمناً باهظاً لمعالجة الآثار السلبية الناجمة عنه.