تلويث رمضان
تتنادى دول العالم بتكتلاته السياسية، والقوى والنظم الدولية، بين الفينة والأخرى إلى اتفاقيات ومحادثات تهدف إلى المحافظة على السماء خالية من الملوثات والمكدرات، فيتحدثون عن ثقب في طبقة الأوزون، وأخطار ذلك على الحياة في الأرض، وما ينجم من ارتفاع درجة حرارة الأرض من مخاطر محدقة بالكثيرين، إلى ما هنالك من المخاوف والمحاذير، إلا أن ثمة تلوثاً آخر في السماء أكثر خطراً, وأعظم ضرراً، قلَّما يُتَحَدث عنه, إنه تلوث عقدي أخلاقي سلوكي فضائحي عارم، إنه تلوث يحكي صوراً من الانفلات والبُعاد عن شريعة الله، تلوثً يعمل على إضعاف صلة الناس بربهم, ويوهن علاقتهم بدينهم، ويردهم القهقرى في أخلاقهم.
هذا التلوث يتجاوز ضرره دنيا الناس وعاجل حياتهم، إلى الإضرار بدينهم وآخرتهم، ويقلص من حرصهم على رضا خالقهم, هذا التلوث لا ينحصر ضرره على ثقب في طبقة الأوزون، ولكنه يُحدث في بيوتات المسلمين خروقاً تتسع على الراقع, وتترك الديار خراباً يباباً.
هذا التلوث يتمثل في هذا السيل الهادر من الإسفاف الفضائي الذي يزعزع العقائد, ويهدم الأخلاق, في فضائيات الدجل تارة، وفضائيات الإسفاف الأخلاقي تارات أخرى, أو قد يخرج من خلال شاشاتها على المسلمين مفتون لا يقدرون للفتوى قدرها, وأنها تكليف قبل أن تكون تشريفاً, وقد تغتال هذه القنوات الطفولة بما تبثه لهم من أنواع الرذائل والجرائم في صورٍ كرتونية، فتنغص على الناس صفو حياتهم، وتكدر عليهم بيوتاتهم، فتغري النساء والولدان بما يُزَيَّن للناظرين مما لا تناله أيديهم, ولا يقدرون عليه طولاً، وتزعزع الأمن الفكري للمجتمعات المسلمة التي هي أحوج ما تكون إلى الأمن في جميع صوره في عصر الحروب والقلاقل.
وبعد كل هذا الضياع والإضلال المتعمد تطل هذه الفضائيات بوجهها القبيح على المسلمين مع قرب كل إطلالة لهذا الشهر الفضيل: رمضان, تبشرهم بما ستمطره عليهم من الانحطاط الأخلاقي، والحرب العقدية في ليالي رمضان وأيامه المباركات، فيا لله العجب؛ شياطين الجن تصفد, وينطلق هؤلاء: أبالسة البشر, وشياطين الإنس لإغواء عباد الله!!.
على حين غفلة من أهل الحق تسلط هؤلاء الشراذم الأقزام على مائدة رمضان, فاقتطعوا من أوقات الناس ما ملؤه ضجيجاً وعجيجاً, ومعاصي ومنكراتٍ تحت مسميات: السهرات الرمضانية، والفوازير والمسلسلات, والبرامج المضحكات، التي تزيد من رقعة الغفلة، وتوسع هوة الانفلات من الأحكام الشرعية والأخلاق الإسلامية المرعية، ورمضان لم يكن يوماً من الأيام مضماراً للمسابقات، ولا للمسلسلات التي تسلسل عقول الناس بالمنحط من الصور والأطروحات، نعم كان رمضان ميدان سباقٍ للمجتهدين المتهجدين، وموئل عباد الله الذاكرين، وكانت جنبات المساجد ميادين مسارعة إلى رضوان الله، فما كان المصلون للتراويح يخرجون إلا قرب بزوغ الفجر، وفروع الصباح, أمَّا هذه الصورة المقيتة وما يريدون إبراز رمضان فيه, فهو نتاج ما زنته في عقولهم الشياطين, فولَّدت هذه الصورة المشوَّهة التي يعملون لأجلها.
ثم كانت ثالثة الأثافي حين تطاول هؤلاء الأقزام على عظماء الأمة ورجالات الإسلام, والكوكبة المباركة ممن كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة الأبرار، فصوَّرُوهم تمثيلاً، وأبرزوا جوانب من سيرتهم تضليلاً, وهكذا تنقض عرى الدين، وتغزى ديار المسلمين والله المستعان.
هؤلاء الصحابة الذين هم أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلفاً، من شاهدوا التنزيل، وناصروا الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفس والنفيس، خيار الناس بعد النبيين، رهبان الليل وفرسان النهار، يُتخذون غرضاً تنتضلهم سهام أهل العفن, فيا تُرى ماذا يراد بنا أيها المسلمون؟.
وكما هو دأب أهل الفساد؛ كانوا ولا يزالون يبحثون عمن يبرر لهم, ويختلق المسوغات الشرعية لإفكهم، وسيجدون؛ لأن من المعروف أن لكل ساقطة لاقطة، فكانت الأعذار الواهية والمبررات المضللة.
إذ قالوا: أصبح الفن والتمثيل ضرورة ومن ضروريات الحياة المعاصرة، وأمسى له تأثير هائل في حياة الناس سلباً وإيجاباً.
قلنا: هذا التمثيل الذي عنه تتحدثون لا يجوز من حيث الأصل؛ لأنه ضرب من الكذب، والوسائل التي تُستغل في الدعوة إلى الله يجب أن تكون خالية من المنكرات.
قالوا: حرَّم العلماء تمثيل الرسل والأنبياء, والعشرة المبشرين بالجنة وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
قلنا: يلزمكم فيمن منعتم تمثيله ما يلزمكم فيمن أبحتم تمثيلهم، فالكل صحابة قد ثبت لهم الفضل والرضوان من الله، نعم يتفاضلون في المنازل والدرجات حسب السبق إلى الإسلام ونصرته، لكن حفظ حقوقهم وصيانة أعراضهم واجب شرعي يشتركون فيه, {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد 10].
قالوا: قبل خمسين سنة مثَّل ناس سبقونا دور خالد بن الوليد، بل ومثَّل الممثل الإنجليزي "انطوني كوين" دور عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعترض أحد.
قلنا: لكل منهم ما اكتسب من الإثم وما كان ربك نسياً، ولا يزال من العلماء من هو قائم لله بحجة، وليست أفعال آحاد الناس حجة على الإسلام, فالكل يؤخذ منه ويرد إلا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: التاريخ ملك للجميع, والمسألة ليست دينية بحتة, ويظل قرار التمثيل قرار الشركة المنتجة.
قلنا: ولأن تاريخ المسلمين ملك للمسلمين فإنهم لا يسمحون لأحد بالعبث فيه, وتغيير الصورة الناصعة التي ارتسمت في أذهان الناس عن هؤلاء العظماء الأفذاذ، وكيف تُقصون حكم الدين عن معترك النزاع وأنتم تتمسحون بمسوح التعلق به ومحبته وخدمته؟، أضف إلى ذلك: أنه كيف يترك القرار بيد أصحاب شركات همهم النجاح المالي على أي حساب كان؟!.
قالوا: سيقوم بالتمثيل شخصيات فنية محببة لا اعتراضات عليهم في سلوكياتهم عبر مشوارهم الفني.
قلنا: وأنَّى ذلك من وسط هذا الركام من العفن الفني الذي يزكم الأنوف بنتن الروائح, ويكسر الخواطر بعظيم الفضائح.
وبعد: يبقى إيضاح الواضحات من المشكلات..
وليس يصح في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليل
إنه اجتراء على أبطال الأمة ورجالات الإسلام من قبل أراذل وأقزام، إنه انتقاص لمن قال الله عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [سورة الفتح 18].
هؤلاء الذين سبقت لهم الحسنى من الله وهم في بطون أمهاتهم، فاختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم القائل: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) متفق عليه, وهم خير الناس وخير القرون بنص الحديث النبوي، إنهم الصحابة الذين هم: ((أمنة للأمة فإذا ذهبوا أتى الأمة ما توعد)) رواه مسلم.
هؤلاء الجهابذة يقحمون في دراما فنية يغلب على أجوائها الكذب، والاختلاط، والمشاهد الفاضحة، وما يصاحب البث من موسيقى محرمة، أضف إلى ذلك ما يقع من تزوير للتاريخ، وتلبيس للحقائق بالخطأ مرة، وبالقصد مرات، فيغدو المنكر معروفاً والمعرف منكراً.
ألا ترحمون أبنائنا وبناتنا الذين يبحثون عن القدوات؟ فتقدمون لهم هؤلاء القدوات في صورة الفاتحين تارة، وتارة أخرى على الأسرة مع النساء ؟!.
يزيد الأمر خطورة حين يلبسون تلك الأعمال الفنية لبوس الحرص على التاريخ الإسلامي، فيعدون بها ويبرزونها في أيام شهر رمضان ولياليه؛ ليجمعوا مع الإثم السابق ذكره حرمة الزمان وانتهاك قدسية رمضان.
وبعيداً بعيداً عن تلك الأجواء العفنة, والأيادي الآثمة؛ يأتي السؤال: ما هو الواجب على عامة المسلمين تجاه هذا التلاعب؟, لابد أن نعلم أن الكل شريك في الواجب الشرعي بالاحتساب والإنكار كلٌ بحسبه، والجميع مخاطبون بقول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام68], وبقول الله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [سورة هود 113]، ويقول سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة2], والدعاية لها والجلوس لمشاهدتها من الإثم والعدوان بلا شك .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب))، ويقول: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
فكيف لعاقل طهر نفسه بالصيام نهاراً, وبالقيام ليلاً, بالقرآن تلاوة وسماعاً, كيف له أن يُسلِم نفسه وعقله لهؤلاء السَرَق الذين يسرقون حسناته فيصبح عرِيَّاً منها، فيقسو قلبه بعد رقته، وتخبث نفسه بعد انشراحها ، فلا رقة ولا دموع, ولا خضوع ولا خشوع؟!.
إنه تلوث فضائي يعود بالنقص والثلب على الدين و العرض, فحري بنا التصدي له, والأخذ على أيدي رعاته ودعاته والقائمين عليه, قبل أن يقع الميل العظيم {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء 27] فتغرق السفينة بسبب خروقاتهم المتكررة, سيما في الزمان الفاضل والأوقات المباركة.